تلوّث الخطاب الدرامي الموجّه في العراق

2020/05/11

قصي شفيق

منذ ان هيمن الخطاب الرأسمالي على وسائل الاعلام والانتاج التلفزيوني بقيت عجلة التلوث الثقافي تنطلق لتستعمر عقول المجتمعات عبر اغراق الخطاب بالمحتوى مصطنعة في معامل فنية, فبدل النهوض والتنمية الفكرية بدأ جيل جديد يحقق تشتيت الوعي, لكن ذلك التحول بقي يراوح بين البلدان بحسب قوة وسائل الانتاج والدولة التي تسمح بذلك, اما حركة الخطاب الملوث في الجانب العربي اخذت نوعا جديدا في تقديم محتوى يسمح لكشف القضايا الاجتماعية والعزف على القيم الشاذة محاولة لتأصيلها في المجتمع العربي, غير ان العراق ما بعد عام 2003 كان جزءا من الهيمنة الفكرية الملوثة التي تستعرض السلبيات والانتقاد السياسي كجزء من مناورة تسهم في زيادة التلوث الثقافي للراي الجمعي.

للإفادة من فلسفة الخطاب الملوث, فقد يرى الباحث ضرورة تعريف التلوث الموجه فكريا من طريق تعريف الخطاب الخطاب الموجه ثقافيا بحسب معجم المصطلحات الادبية "الخطاب مجموع خصوصي لتعابير تتحدد بوظيفتها الاجتماعية ومشروعها الايديولوجي, فالخطاب المباشر خطاب حواري ينتهي عن الكثير من تقنيات المجازية, اما الخطاب الضمني يعارض الخطاب المباشر ويفسر على ضوء هذا التعرض الذي يفترض قدرة حسية بالمرجعية

ويجد الباحث قراءة الخطاب الملوث الاحادي التوجيه على انه: الرسالة الضمنية المؤدلجة بلغة درامية تؤثر في المجتمعات عبر حركية من التواصل الايديولوجي المباشر وشكل منسق من الافكار والكلمات والجمل الرجعية الملوثة.

الفضاء الثقافي مساحة جمالية ونافذة تواصل مع الاخرين ووسيلة للتأثير في الراي الجمعي مرة في تطوير ثقافة المجتمعات والارتقاء بها واخرى في تقويض الثقافة واستعمار عقول المجتمعات عبر بث رسائل ضمنية منها تحريضية معبئة تدعو الى التحريض والتغيير, فقد ندرج الخطاب الملوث تحت يافطة التوجيه الراديكالي, لذلك من الواضح ان ادوات التلوث الدرامي اخذ مساحة كبيرة بأدوات فنية هيمنة عليها توجيه وسائل الانتاج من حيث يعي صناع الدراما او هيمن عليهم التلوث, ما انساق الى تقديم المبتذل واستعراض المشكلات الاجتماعية دون التفكير بحلول للمعالجة وطرح القضايا بؤرية لا تخدش الواقع المعاش او حتى تنبيه المشاهدين على خطورة الاوضاع الراهنة.

واقع ثقافي

 اذ شهد الواقع الثقافي الدرامي العراقي ثلوثاً فكريا من حيث تناول المحتوى الملوث بلغة الشارع والمحلية المفرطة غير الاغراق في السذاجة عبر عرض برامج تندرج تحت مسمى (مقالب) غير المسلسلات المحلية التي اسهمت في انحطاط اللغة والاداء التقليدي الذي حقق غائية الانغماس في استعمار الذوق العام والهيمنة على الراي العام الجمعي, بيد ان الفضاء الثقافي شهد دراما جديدة من حيث الاشتغال والعرض منها الدراما المصرية والسورية وغيرها فقد انساق الخطاب الثقافي الى تلوث المحتوى الموجه في موسم 2020 رمضان, هنا لوحظ ان التوجه العام للدراما العراقية التي تشهد هيمنة المفردات السياسية والدينية عبر التوجيه الايديولوجي لغالبية المحطات التي تجد من الدراما الملوثة نافذ لتطل على العراقيين محقق اجندات تشوه الذوق العام مرة واخرى توظف (البروبوكاندا) كأداة موجهة تروم الى تشتيت الوعي الجمعي والتحشيد الراديكالي وضرب المقدس, فأن استعراض الشخصيات العراقية ومحاولة لتشويه صورة العراقي والتأكيد على القضايا اللانسانية من جانب احادي التوجه فسر ذلك من خلال الاساءة للفتاة الايزيدية مثلا في برنامج (بنج عام) واظهار العنصر الجنسي اداة للسخرية اما برنامج ( كف ومقلب) الذي يحمل اللفظ والاساءة والتهريج كعنوان لبث السذاجة للمشاهد العراقي في ابتذال موجه قصدي, اما مسلسل ( واحد زائد واحد) للممثل والكاتب (قاسم الملاك) الافراط في التقليدية والدونية في التشهير للشخصيات العراقية, وما قدم من برنامج (كمامات وطن) للممثل العراقي (أياد راضي) في حلقات سياسية ساخرة تعمد على التعبئة وركوب موجة الانتقاد بلا دراسة جدوى التأثير من طريق الكوميديا السوداء فقد ذهب ذلك في تلوث فكري يؤسس الى نافذة تواصل مع الجماهير العراقية في سطيحة فنية تتحرك في فضاء التوجيه الايديولوجي, بيد ان الافكار تتشابه لخدمة فكرة عامة الا وهي الانتقاد للسلطة وفسادها المستشري في المناخ العراقي, كأنك امام نافذة تنشر المشكلات وتعلق عليها دون التفكير في خطورة المحتوى وتلوثه الدراما.. الخ

خطاب درامي

هنا مرة الخطاب الدرامي في انعطافه من جهات التمويل والعاملين في مجال الدراما الذين يشكلون (عصابة الدراما) التي تستحوذ وتحتكر الدراما فيما بينهم, لكن احدا لم يسال نفسه لماذا يسمح للدراما الملوثة ان تخترق وعي الجمهور العراقي؟ ولماذا بقيت تقدم المحتوى الهابط رغم رفض غالبية الجماهير العراقية للمضمون والشكل المنحط؟ فقد بقيت الراديكالية الاعلامية تذهب الى تسيير الخطاب باتجاه احادي التأطير والعرض.

اخيرا الدراما العراقية لن تخرج من عباءة التلوث الفكري طالما الانتاج مهيمن عليه أيديولوجيا ومساحة التفكير محدودة في الاساءة وعرض المشكلات الراهنة بلا معالجة واعية للقائمين على الدراما من الفنانين والمختصين غير ان الاعمال التليفزيونية والبرامج  تفتقر للإداء والقراءة الجمالية لأنها تدور في حلقة مفرغة من السطحية والتقليد ما دفع الجمهور العراقي ان يغادر ذلك الفضاء باحثا عن دراما مغايرة تحقق له عنصر التطهير الفكري والمتعة في مشاهدة الاحداث.

حتى هذه اللحظة الخطاب الملوث الدرامي هو السائد في المشهد الثقافي العراقي وبقي في حالة من الاحتضار والتعثر والتقليدية المنغمسة في سياسية المهيمنات الراديكالية من قبل جهات التمويل والانتاج حتى انساق الخطاب الى تلوث المعروض للمشاهدين.

{ ناقد وأكاديمي

أخترنا لك
عن بواكير ونشأة الرواية العربية

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة