ما معنى أن تكونَ مُترجِماً؟

2020/04/28

الترجمة مثل لعبة الحب مزروعة بالفخاخ والمراوغات... لكن بنهاية لذيذة

يعود الناقد والمترجم المغربي محمد آيت لعميم، في ترجمة جديدة، ليقدم للقارئ العربي جانباً من تجربة الكاتب والمترجم البرتغالي الأصل والفرنسي المولد والنشأة، كارلوس باتيستا، وذلك من خلال كتاب «المترجم كاتب الظل» الصادر عن منشورات «مركز الحمراء للثقافة والفكر» بمراكش.

وانطلق آيت لعميم في تقديمه للكتاب الذي توزعته أربعة محاور تناولت «فن الحب» و«فن الخيانة» و«فن الإغواء» و«فن الفرار»، فضلاً عن مقدمة، ونص – سؤال «لماذا نترجم؟» وتذييل – خاتمة، من مقولة لبوشكين، يتحدث فيها عن المترجمين بوصفهم «خيول بريد التنوير». كما استحضر الجاحظ ورومان ياكوبسون بصدد «الاستحالة»، ومقولة لجاك ديريدا عن الترجمة المستحيلة والضرورية في الوقت نفسه؛ قبل أن يستدرك، بالقول: «أمام جدار الاستحالة الذي نصبه أهل التنظير في الترجمة أكد أهل التطبيق والممارسة إمكانية تحققها»، ملاحظاً أن «التنظير محبط والممارسة تكذّبه».

ويقول آيت لعميم إن الترجمة وُجدت لأن البشر يتكلمون لغات مختلفة، مشيراً إلى أن مشهد التعدد اللغوي قد عرض في «سياق الخطيئة» كما ورد في القصة التوراتية، قبل أن يتحدث عن ورود هذا المشهد في القرآن الكريم بـ«صيغة مخالفة»، بشكل يُظهر أن التعدد كان في الأصل، ولم يكن حادثة عارضة؛ ليصير التعدد والاختلاف اللغوي آية شبيهة بالتعدد في الآيات الكونية، للتدليل على طلاقة القدرة الإلهية، بحيث يصير التعدد «أشبه بالنعمة منه إلى النقمة»، وتصبح وظيفة الترجمة «تقريب البعيد وضيافة الغريب»، و«مد حبل النجاة للإخوة الذين تشعبت بهم السبل وتاهوا في غابة القول».

بعد استعراض وجهات نظر عدد من المنظرين الذين كتبوا مؤلفات مرجعية في حقل التأمل الترجمي، وجاءت عناوين كتبهم محيلة إلى البعد العلمي والجمالي والأخلاقي والفكري والفلسفي للترجمة، سيشير آيت لعميم إلى السياق التأملي والتفكري للممارسة الترجمية بملذاتها وعذاباتها، الذي جاء فيه كتاب «المترجم كاتب الظل» لباتيستا، فتحدث عن المؤلَّف، فقال إنه شبيه بالمختصرات، والتذكرات، «يظهر فيه المترجم كاتب الظل في واضحة النهار، من خلال شذرات مركّزة، تذكّرنا بكتب الحكم، ونوادر لا تعدم حس الدعابة، حيث أعطيت الكلمة للجميع كي يتحدثوا عن الترجمة، وفك ألغازها وأسرارها، والاستمتاع بلذائذها المشوبة بنوع من الألم الدفين. فالترجمة كما أبرزها هذا الكتاب همّ مشترك لكل فئات المجتمع وليست حكراً على المنظّرين، بل هي شأن إنساني، الكل مدعوّ لإعطاء تصوره حولها».

وجواباً عن سؤال «لماذا نترجم؟»، نكون مع جواب لباتيستا يرى فيه أن «الترجمة لها صلة باندفاع مغامرة العشق – من حيث المثابرة، والتطور الجريء، والمقاومات المنتصرة، والإمساك بالأسرار، واقتحام الصيغ الحاسمة»، بحيث «يكسر المترجم الصمت الذي يفصل بين اللغات والشعوب»، هو الذي تصير بداخله «نهاية الكلام بداية».

تحت عنوان «فن الحب»، نكون مع مترجمة عاشقة طرقت باب كاتبها: «سألها: مَن الطارق؟ قالت: أنا. قال: البيت لا يسعني أنا وأنت. انصرفت المترجمة وراحت تتأمل في المكتبات، وفي حانات الليل. بعد مضيّ بضعة أشهر، عادت من جديد لتدق باب كاتبها المفضل، سأل: مَن الطارق؟ قالت: أنت، إذّاك فقط فتح الباب». ثم يضعنا الكتاب في صورة مترجمين عديدين، بينهم مترجم صائغ ومترجم فارس ومترجم شيزوفريني ومترجم ساعاتي ومترجم أعمى ومترجمة حُبلى ومترجم بستاني ومترجم دنجواني ومترجم كهربائي. مع هذا الأخير، مثلاً، «يكون القارئ أمام النص الأصلي الذي يجهل لغته، كما لو أنه في بيت مجهول، غارقاً في الظلام، يتعثر عند كل كلمة، ويترنح عند كل جملة».

وبالنسبة إلى باتيستا، فـ«كل انغماس في لغة أجنبية يجعلنا نستشعر غرابة لغتنا الخاصة»، مع أن «الترجمة لقاء: يأتي الأصل لزيارة قارئ من بلد آخر، وهنا، إما أن يحدثه كما لو كان جاره الجنب، أو كما لو أنه صديق بعيد، يتحدث لغة القارئ بطريقة جيدة جداً، لكن بسحر نبرته الخفيفة». لكن «هل المترجم كاتب أدنى، أو كاتب أعلى، أو نصف كاتب، أو مساعد كاتب أو كاتب موازٍ، أو ما بعد كاتب؟»، بالنسبة إلى الكاتب: «لا يهم، إنه وقبل كل شيء فنان، بارع مدقق في اللغة، على الأقل نظرياً». لننتهي، من هذا المحور، إلى أن الترجمة مثل لعبة الحب: «مزروعة بالفخاخ، وبالمراوغات والطعم والخدع، لكنها لعبة بنهاية لذيذة».

في «فن الخيانة»، نكون مع باتيستا وسؤال: «ما الذي يمكن أن يفعله مؤلف ضد مترجم يخونه؟ سيسامحه، أو يحاول قتله». قبل أن يحدّثنا على لسان مترجم للشعر: «في أحسن الظروف، الترجمة تزييف ناجح واحتيال أنيق، وفي أسوأ الظروف هي عمل حفار قبور وشهادة وفاة».

يحدّثنا باتيستا عن ثلاثة أصناف من المترجمين: «الإسفنجي والمصفاة والغربال. الإسفنجي يمتص الكل معتقداً أنه أعاد كل شيء، والمصفاة تصب السائل كي تحافظ على الحثالة، والغربال يلفظ التبن ليبقي على الحبوب». في نهاية التصنيف، ينصح باتيستا قارئه بأن يكون غربالاً.

وبالنسبة إلى باتيستا، أن تكون مترجماً ذلك يعني «أن يكون لديك ذوق معلن من أجل التستر، وأنت راغب أن تكون معروفاً»؛ فيما يقول لنا القانون اللساني الخاص بالعرض والطلب إن قيمة الكلمة ترتفع في لغتها حينما يكون هناك نقص لهذه الكلمة في لغة أخرى، إذ في الترجمة، كما في الحب، يضيف باتيستا، «سبيل الإفراط يمكنه أن يقود إلى قصر الحكمة كما يمكنه أن يقود إلى كوخ اللا معنى. لأن الذي يعرف كيف يجننه الأدب، تجعله الترجمة حكيماً أو أكثر جنوناً».

سيحدّثنا باتيستا عن «الترجمة بالطعنة»، مشيراً إلى أن أوغيست فون شليغل، مترجم سرفانتس إلى الألمانية، كان يقول: «الترجمة مبارزة حد القتل حيث يموت لا محالة المترجم أو المترجم له». لكن كيف يكون المترجم كئيباً ومحبطاً؟ يتساءل باتيستا، لنكون مع جواب ينقل لما يحصل حينما يعجز مترجم عن التركيز في عمله، ليقضي يوماً شبيهاً بيوم الحلاق: «يفتح حانوته، ينتظر، يتصفح المجلات، يدخن، يشرب القهوة، يشعل سيجارة تلو أخرى، وحين يأتي المساء يلعن ذلك اليوم لأنه لم يحلق لأي زبون، فهو يوم فارغ مثل صندوق نقوده».
أخترنا لك
زياد بن أَبيه (قصة قصيرة)

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة