الروائي لا يشبه الشاعر ولكنه يجسّد حكايات المنزل

2020/04/19

البيتلز يحملون أغانيهم من أجل إسعاد العالم

 

الروائي لا يشبه الشاعر ولكنه يجسّد حكايات المنزل

 

 

نعيم عبد مهلهل

1/ مشاعر اولى قبل كتابة الرواية

 

أشعر أن الرواية اكثر ادوات التوصيل الثقافي والحضاري قدرة على ايصال التمثيل الشمولي لحركة العالم وهي تؤدي دورها في متغيرات العصور كشاهد عيان ومعبر عن الهاجس اليومي الذي يصاحب سير العملية الحياتية لمليارات البشر ، وهي مثل الشعر يعبر عنها بكل اللغات، وفي تفكير اليابان تصنيع ريبورت لكتابة رواية ، بعدما كان المشروع الاول الريبورت الشاعر .

 

اشعر ان ازاحة الشعر في هيمنته على ذائقة التعبير عن الذي يدور فيما حولنا هو فعل خلقته ضرورات الحياتية ومتغيراتها فكان على الادب ان يقترب اكثر من فهم التعامل والاحتكاك بما هو موجود ليشهد العصر الصناعي والتقني تطورا في فلسفة التعبير فأزداد عد الروائيين من عدد اصابع اليد في القرن الثامن عشر الى الالاف في القرن الواحد والعشرين.

 

تكتب الرواية بصيغة الخطاب المحكي على لسان اشخاص او شخص او بصيغ التخاطر أو نقل الوقائع أو رصد ما تراه العين وتطور فيه مشاعره عندما تحكى في صيغة الروي ، والرواية هي وليدة المادة التاريخية اولا ثم اخذتها افواه الحكواتيين الى الدواوين والمقاهي ومسلات الحجر وأوراق المطابع والكتب واخيرا الى شاشات الحاسوب .

 

لتستقل كجنس ادبي يمارسه كتابة مئات من البشر بشكل يومي وعلى شكل طقوس ، وهي في بعض ذروتها الحسية قد تنافس معظم الاشكال الادبية في التعبير الجمعي عن الرسم والشعر وعلم النفس وحوارات المسرح واشياء اخرى .

 

انها تفعل الشي هذا خصوصا عندما تسكنها الشعرية والاخيلة الاسطورية . وعندما تريد ان تقدم على مغامرة كتابة رواية فعليك أولا ان تشعر ان الحدث موجود فيك او معك وتحاول ان تمسك مقتربات التمكن من بنائها كحدث حكائي يرى ما يحدث ويفسره ويغور فيه في اجتهاد وحرفة وبلاغة ، أي ان الرواية بدون لغة قوية وواعية وبليغة تكون كسيحة ، والوعي في اللغة لا يعتمد على اصلا على قوة الفكرة ونضوجها ، الوعي اللغوي هنا ان القدرة على جعل اللغة وجزالتها طيعة في بناء العبارة والحدث ، لهذا فأنا دائما اقف عند قناعة اني عندما اشاهد اولا واريد التعبير عن تلك المشاهد علي ان اتأكد من سلامة ومتانة وقوة كلماتي التي سأصف بها الحدث أو استشعره . ولهذا فأن جميع رواياتي هي نتاج المشاهدة ،وعرفت ان تلك المشاهدة بدون لغة واعية لن استطيع تدويتها وحتما وعي اللغة يحتاج الى القراءة والاطلاع ومزجهما بموهبة ما تشعر انك تمتلكه وقادر على التعبير عنه.

 

 اتت رواياتي في اغلبها مما عشته ورأيته واكثرها من تلك الامكنة وتصاويرها والتي صنعتها زمزميات الحروب وخوذها والارتال التي تنتمي اليها كعريف مخابر ثم تصعد سيرا على الاقدام فوق قمة جبل كرد مند لتواجه ما يسميه الجنود قسمتك في هذه الحرب. تلك القسمة مشت عبر سنوات واخرى ، واتت الحرب الاخرى وبعدها الاخرى وانت تعيش الرؤية ذاتها مع ما يخلط معها من مشهد اجتماعي وروحي جديد تمليه عليك متغيرات الوضع العائلي وسنوات الحصار ومحطات اللجوء. وحتى لا اقع في سعة الحديث عن تتبع البدايات سأذهب الى اخر رواياتي  بكاء مقابر الإنكليز في بابل  والصادرة عن دار نشر نينوى للطباعة والنشر في دمشق لتكون شاهدة العناوين التي نضدت الان على رفوف ذاكرتي والمكتبات واصبحت بعضا من التراث الروائي العراقي . في تلك الرواية وجدت ما افتقدت من محاولة الوقوف عن مجريات ما حدث ويحدث وسيحدث وكان علي حتى افهم ما يجري أن استعين بحدث التأريخ منذ البدء التوراتي وما قبله لأعرف شكل تلك القدرية التي تلون ملامح هذا البلاد الذي انتمى اليها ابي واجداده ، فما وسع الفهم في كل هذه المجريات سوى بالرغبة للتعبير عن هذا الاحساس برواية. فأتيت بالبيتلز ليكونوا بعض حلول حل هذه المشفرة التي ترمى مثل عباءة الرجل الدرويش على اكتاف اقدارنا في انتظار حلول لكل تلك الفوضى التي افرزتها حروب تلك البلاد .

 

خواطر السرد

 

2 / التأريخ عندما يكون مدخلا لخواطر السرد فينا

 

بابل أكثر هاجس عراقي سكن التوراة . وأكثر مكان نسب اليه اليهود انبياء لهم خارج وجودهم البعيد في مصر وفلسطين حيث عاش بها النبي العزير وذي الكفل ع ، وقبلها كانت أور قد سجلت وجودا مكتوبا في التوراة واخر مؤسطرا عبر ابراهيم وايوب ع ويقال ان نوح ع ابتدأ رحلته من اهوار العراق القريبة من أور .وهناك في ذات المكان العديد من الامكنة يفترض انها ضريح للخضر ع .

بابل اقترنت بالإسكندر ايضا حيث نال منيته فيها بعد اصابته بمرض الكوليرا وليس بعيدا عنها مات بذات المرض اسكندر اخر بريطاني الجنسية  هو الجنرال مود الذي احتل بغداد في 1918.

وبالرغم هذا فأن الحديث عن بابل هو مزيج من الخوف والكهنوتية والعمران والشرائع الاولى ولينتهي هذا الحديث بواقع متعب لبابل الحديثة التي هي مجرد شط ينصف الحلة نصفين وتئن المقاهي  على النغم الشهي لصوت سعدي الحلي .فيما حاكمها  يمتلئ بالثروات من سحت الفساد ومع الحبربشية.

صورة بابل هي مخيلة روايتي  بكاء مقابر الإنكليز في بابل   .الرؤية المقروءة بمتغيرات وقدر هذا البلاد والتي كتبت عنها الناقدة السورية جينا سلطان في ملحق النهار الادبي البيروتية قولها

 يحاور الكاتب قارئه ضمن ثنائية الحرب - الشهوة عبر أربعة وجوه ذكورية: بيتر، دانيال، امير وحارس المقبرة؛ تحتفي بالأنوثة وتتدثر بها في ظلال متواليات الحروب التي انتهكت أرض بابل، ابتداء باحتراق مدينة أور القديمة، حتى دخول المارينز بغداد والانكليز البصرة، في إشارة إلى قدر حتّم على العراق ان يكون وطنا لافتراضات الآخرين وعبثهم، مع تساؤل مرير عمّن يكمل للشعب مسيرته ما دام جلجامش قد خدعته افعى. في المقابل تحقق النماذج الأنثوية الترابط الإنساني المفقود في زمن العولمة، سواء من ناحية الاستعانة بالكاتبة الانكليزية فيرجينيا وولف التي استلهمت من وحي الجبهة البعيدة فكرة اعادة صوغ حلم كائنين من عالم لم تبلغه بروحها وجسدها. وهي محاولة حساسة لفتح نافذة استشرافية خاصة، تمهد لوضع تصور جديد لرؤية ما يحدث في هذا العالم. الأنثى المتعبة قررت انهاء حياتها، اذ تكهنت ان الاطار الامبريالي لا يليق بمن تريد بلوغ شجرة الحلم. في المقابل تبرهن هاشمية، زوجة الحارس الأمية، عن موهبة فطرية في حفظ سوناتات شكسبير المدونة على شواهد القبور الانكليزية في مقبرة الكوت. فثمة شيء مشترك تصنعه رصاصة الحرب.

 

تلك هي بابل التي يسيل لعاب الغرباء من اجلها حتى يضطروا ليتسابقون مع اهل البلاد على نهبها .

صورة الحزن والاحتلال والنبوءات المظلمة للكهنة هو قدر بابل في كل زمان ...

وعليه أشعر ان هذه الرواية الاقرب الى قلبي ....

3ــ الطيبون المعدان بعض أمكنة الرواية

 

 المعدان جمع معَيدي  والمعيدي غير المُعيدي وهو طائر جميل الصوت قبيح الصورة ومن هنا جاء في أمثال العرب قولهم أن تسمع بالمعُيدي خير ٌ من أن تراه..هذا يعني أن هذا المثل المتداول بين الناس والهدف منه الانتقاص من قيمة المعيدي هو لا يعنى فيه المعيدي كأنسان وأصل ونسب بل يقصد فيها هذا الطائر المسمى المعيدي ..على هدي هذه الحكاية وهذا المعنى ، حاولت أن أعيد تكوين صيرورة هؤلاء الناس من خلال إحساس خاص اعتمد ليس فقط على ذاكرة التاريخ ،بل إن المعايشة والتجربة والمراقبة والبحث صنعت لدي كل تلك التصورات التي خلفتها برؤيا هي في تقديري عمل أدبي قبل أن تكون دراسة لتاريخ شعب ظل على مدى عقود يمسك أحلامه من خلال إحساسه بان الله خلقه لهذا المكان فقط. فكانت امكنة المعدان شرق دجلة بعض امكنة رواية بكاء مقابر الانكليز في بابل،

فقد قدر لي أن أعيش معهم ردحا من الزمن في فترة عصيبة من حياتهم ، وما أكثر قسوة التاريخ على شعب يدرك فقط أنه شعب آت من حضارته البعيدة التي منحت العالم رسم الحرف ومعنى الكلمة ، وهم الشعب الوحيد في الكون من جعل الجواميس خيول معاركه وليس جياد الحرب التي ركبها قتيبة بن مسلم الباهلي وذهب بها الى سمر قند.

وكنت دائما أضع قضاء الجبايش وهو واحد من أهم مدن الأهوار في مشابهة جمالية وروحية مع سمرقند المدينة الأوزبكية التي سحرت القائد المغولي جنكيزخان ، وظنها مفتاح الولوج الى العالم الجديد وامتلاكه ، عندما همس لقادته: إذا كنتم تحلمون ببغداد ، فعليكم أولاً بسمرقند. وتأمل الى وصف المؤرخ المغولي وحاكم بغداد بعد هولاكو عطا الملك الجويني في وصف المدينة يغنينا عن أي وصف آخر لها قوله :

سمرقند أعظم بقاع مملكة السلطان مساحة وأطيبها ربوعاً ، وقديماً قالوا : أنزه جنان الله أربع ، وسمرقند أطيبها.

صناعة المدن والأمكنة المتشابهة أمر ليس بسهل . إيطاليو كالفينو صاحب اشهر كتاب عن المدن المتخيلة يقول : عن صناعة مدينة مفترضة لواحدة كموجة في الواقع لابد أن ينال الكثير من الاسطرة . وعليه فان جلب سمرقـند الى الجبايش يعني مفارقة غريبة ،فمن جاء بالأوزبك الى مدينة بني أسد وقرى المعدان الذين يطوفون بأخيلة الماء والنجوم كما تطوف الغيوم في كبد السماء ،فيما سمرقند لا تطوف فيها سوى زرقة الكاشان الذي يزين مآذنها وذاكرة تاريخ الأوزبك وهم يحلمون بالشرق الذي يرقد فيه أمام مذهبهم أبو حنيفة النعمان وبيت الله في نجد. لهذا أتخيل أن سمرقند ثانية تطوف في أرجاء مكان تصبغهُ من كل جهاته اضوية اللازورد الأخضر وكتابات تتحدث عن سحر غامض لكنوز وامكنة كانت في يوم ما واحدة من اجمل أحلام الاسكندر الكبير. الذي غفت على كتفه الكثير من الأساطير ومنها ما كان يظنها هو أن جنوب بابل التي وصل إليها بخيول الرومان والإغريق والمقدونيين لعصية عليه بسبب أقوام البطائح والمياه المحصورة بين ضفتي دجلة والفرات ،وحتما كان يقصد المعدان. ويبدو أن تصوير الشاعر الفارسي  نظامي الكنجوي  للأسكندر في قصيدته الشعرية النثرية والموسومة  إسكندر نامه الطويلة التي تحدث فيها عن مراحل حياة الإسكندر في صورتيه المفترضين ،تلك التي دونها التاريخ عنه بأسم الإسكندر المقدوني ،وتلك التي جاء ذكرها في القرآن الكريم بأسم الإسكندر ذي القرنين بعد أن سأل عنه الرسول من قبل قريش وبإيعاز من أحبار اليهود . وفي نهاية فصولها الحكاية التالية عن الإسكندر وفيها ما اعتقد ربطا بالمكان واهله وخصوصيته قول الشاعر الفارسي الكنجوي :

 ثم علم الإسكندر إنه وصل الى الأرض الظلام حيث يوجد ماء الحياة ، فأقترب من المنطقة ،وقابل الخضر ، فسار معه في الظلام وأخذا يفتشان عن ماء الحياة ، فعثر الخضر على عين ماء وشرب منها ، أما الإسكندر فقد تاه عنها وظل الطريق ، وظل يبحث عنها أربعين يوما فلم يعثر عليها ،فقفل راجعا الى بلاد اليونان . في تناص بنيوي داخل الرواية في فصل كبير من فصولها تظهر هذه الحكاية ملائمة مع خصوصية المكان الذي عاش فيه عرب الأهوار ، حيث المكان ذاته الذي انطلق منه جلجامش للبحث عن خلود مفترض وصف بعدة أشكال  تفاحة الحياة ،ماء الحياة ،عشب الحياة ، شجرة الحياة ، وربما يأتي شيئ من الربط في حكاية الشاعر الفارسي إن ثمة مكانا مقدسا يقع في الطريق الواصل بين مدينة الإصلاح ومدينة الفهود ضمن محافظة ذي قار / 360 كم جنوب بغداد .وناحية الفهود من أشهر مدن الأهوار التي يسكنها المعدان منذ البعيد تحوي مقاما يقدسه الناس ويزورونه في مواسم معينة يسمى مقام الخضر حي الدارين . وربما هذا التناص في رؤاه البنيوية يقودنا الى تفكير آخر في علاقة الإسكندر في المكان الذي سكنه أهل سومر وهم سكان الأهوار القدماء وصانعو عصرها المجيد في سلالاتها الثلاث ، يقودنا الى شخصية الإسكندر ذي القرنين الذي ذكر في سورة الكهف وفي هذه الآية يصنع التناص وتقترب شيئا من الصورة عن المكان وخصوصيته ، فالإسكندر ربما وصل المكان وله مع المعدان جولات بالرغم من إن التاريخ لا يتحدث في هذا الأمر سوى ما تركته لنا رؤية أحد قادته الذين أرسلهم لاكتشاف المكان والسيطرة عليه وهذا القائد هو نيرخس. والآية الكريمة التي تحدث عندنا تلك المقاربة أو الظن هي  وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى ، وسنقول له من أمرنا يسرا  88  ثم أتبع سببا  89  حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم تجعل لهم من دونها سترا  90 . وربما يقترب القصد إن أولئك الذين تجعل لهم الشمس من دونهم سدا ،هم سكنة الماء الوفير الذين ينظرون في صباحهم الى أفق مفتوح لا ينتهه ، حيث لا يسترهم حد فاصل أو جبل أو أي تضاريس طبيعية سوى الماء. فكانت الشمس بعض من سترهم الذي يحتمون فيه. هذا التاريخ الموجز للمكان والمعدان كان من بعض هاجس البيتلز وهم يركبون شاحنة الخرفان ويسيرون في الطريق الاسفلتي الرابط بين البصرة والكوت ليمروا بقرى المعدان ويشمون رائحة روث الجواميس.

 

هاجس الرواية

هاجس الاسكندر ، وهاجس الرواية ، هو ما جعل الكتابة في هذا البوح يوصل المقدار الكبير من الشحنة الحزينة التي تجعل المعدان يحزنون ان الحاكم المدني بول بريمر يتجول بين قراهم بمشحوفه السريع وهو ينظر الى عالمهم بلامبالية وهو لايعلم ان هؤلاء السمر هم الاحفاد الحقيقين للملك أور ــ نمو الذي بنى زقورة أور.

4 ــ فرجينيا وولف ومقابر ما وراء البحار

كتبت رواية  بكاء مقابر الإنكليز في بابل  وأنا اعيد صياغة ما فينا من نكبات تواريخ ايامنا التي تقع عند حدود الامل وادثار الاثر.

عشت هاجس الاخر الاستعماري الذي جعل من بلادنا مرتعا لعصوره التي كل هداياه اليها كانت سيوفا ومدافعا وطائرات وصواريخ كروز منذ ان دخل الاسكندر المقدوني بابل والى اليوم ، وكان علي ان اعيش هاجس الاستمرار هذا مع دوامة اسمها بساطيل الجنود الغرباء. واعرف اني مع نهاية تلك الملحمة الحزينة لروحي وهي تتأسى على موتى غرباء جعلوا من اراضي ميزوبوتاميا مقابرا لهم ،سوف اذهب الى هاجس اخر ، فإذا كانت البيتلز تتحدث عن جنود فرجينيا وولف وشكسبير والليدي ديانا سبنسر ، ففي مخيلتي رواية عن جنود ايطاليا الذين اتخذوا من مدينة اور قاعدة عسكرية لهم وقد صاحبوا بريطانيا وامريكا في الغزو الاخير للعراق. وحتما ستكون صوفيا لورين وراكيل وولش ومحلات الازياء الراقية في مدينة ميلانو هاجس اولا للحديث عن جنود روما الذين مزقتهم سيارة حوضية مفخخة عند مدخل جسر الزيتون الذي يصل ضفتي نهر الفــرات في مدينتي الناصرية.

وهكذا اعتقد أن الرواية العراقية القادمة هي رواية ما حدث ويحدث وسيحدث وحتما سيكون هذا اليانكي المدجج بالسلاح صورتها الاقرب لتكون الذاكرة الشاهد الحي والشريف لكل ما جرى ويجري .

تختصر الرواية الهاجس الانكليزي في بلادنا في تلك الجدلية التي تعتقد بريطانيا انها تلائم الوضع العراقي تماما ، لهذا هي قادرة على ان تكتشف نفطه وتبيعه وتأخذ تمره وتبوغه وتصدرها الى الهند عن طريق شركة الهند الشرقية وتستطيع ايضا ان تنقب اثاره وتحملها الى متاحفها وتستطيع ايضا ان تنصب ملوك هذا البلد وحكوماتها ،وما تخسره ليس سوى الوفا قليلا من جنودها لا تحترم حتى موتهم البطولي بالنسبة لها وتحمل رفاتهم الى مقابر مدنهم القريبة من لندن وويلز وإسكتلندا او بومباي بل تتركهم عرضت للإهمال في مقابر البصرة والكوت والعمارة وبغداد وكركوك . هذه الرؤيا اسكنتها حزن فرجينيا وولف وجعلتها عصبا للرواية التي كتبتها بانفعال حزن وهاجس من شعرية تخيل هذا المنفى البائس لجنود انتصرت علينا بلادهم في كل حروبها ولكنها في كل نهاية مطاف تخرج مهزومة ولا تترك لدينا سوى سفرائها وكتب المناهج الانكليزية ومقابر جنودها. لهذا بدأت في رواية البيتلز يشترون مقابرا في الكوت  منذ اللحظة التي أغمضت فيها فرجينيا وولف مودعة العالم بانتحار لبس رداء اليأس جراء التغير الروحي الذي لم يعد يلاءم العصب الحسي الذي أرادت فيه وولف أن تجد الفردوس الحالم في اشتغالها القصصي عبر تجارب بدت بائسة في كل صورها لهذا ومنذ اللحظة التي أغلقت فيها وولف عينيها تغير كامل المشهد الإنكليزي ، وبدأت إنكلترا تفقد مستعمراتها واحدةً تلو الأخرى ، وكأن شبح الحرب قد أغاظ الرومانسية السكسونية كثيراً ، وجاءت رغبة العرافة  سيبيلا  في بدء قصيدة أليوت الأرض اليباب لتعبر تماماً عن ذهنية الموت الذي سكنت أليه فرجينيا وولف .

بعيداً عن كل هذا كان ونستون تشرشل منشغلاً بتعليم ببغاءه جمل السباب التي ينطق بها اتجاه هتلر وموسليني ، ومازال الى اليوم ينطق بها بالرغم من وفاة مالكه منذ عشرات السنين ، لأن تشرشل مات والببغاء ما زال حياً يرزق. كذا تود الذاكرة الإنكليزية كي تجعل من تلقين الببغاء نمطاً أزلياً يذكرها بآخر أباطرة مجدها الأممي : ونستون تشرشل .

غير أن الذاكرة الإنكليزية تتميز في احتفائها بالمنجز الذي يدخل إلى الحياة من خلال الجد وليس من خلال القدرية ولهذا أظهر المفهوم الجرماني منذ أن كتب توشسر قصائده قبل الإحساس العالي بالوجود الذي بشر به شكسبير ، أظهر بعض تودد الحس الرومانتيكي لدى العقلية الإنكليزية رغم أنها هيأت تماماً بعد عودة الملك ريتشارد قلب الأسد سالماً من الحروب الصليبية ، هيأت نفسها لكونية جديدة يستلزم منها أن تستغل الفراغ الحضاري المصنوع من انهيارات الإمبراطوريات القديمة وأهما انهيار الإمبراطورية الرومانية بعد سقوط عاصمتها القسطنطينية على يد السلطان العثماني ،  محمد الفاتح  ، ولكي تفهم بريطانيا عليك أن تفهم تأريخها المدون منذ تأسيس شركة الهند الشرقية وحتى مؤتمر يالطا ، ويكاد أن يكون القرن العشرين هو القرن الذي خلع فيه الثوب عن الجسد الإنكليزي وبان كل شيء . جبروت المملكة وعظمتها ، هزائمها وأخطاءها ، حروبها وآدابها . وأخيراً ترى دموعها المتساقطة من ساعة بغبن الشهيرة وهي تفقد مستعمراتها واحدة واحدة.

 

حزن انكليزي

 

فصول كثيرة يتجمع هذا الحزن الانكليزي في كل تراثه العريق عند اجفان فرجينيا وولف وهي تتذكر جنديا من الذين تعلقت بنعومة خديه وهو مدفونا الان في مقابر ما وراء البحار في مدينة اسمها الكوت في الارض التي تعرف جيدا أن كانــت مهدا لاشــيا كثيرة ورائعة .

ولكنها تتساءل بذات الحزن الذي ساد في معظم رواياتها : لماذا نغزو بلادا نمت فيها حضارة البدء؟ تمنت ان يجيء الجواب من حبيبها المدفون في مقبرة الانكليز في مدينة الكوت . لكن الموتى لا ينطقون ولا يردون . هكذا رددت مع نفسها وهي تذرف دمعة اخيرة قبل ان تنتحر.

 واخيرا فأن البيتلز الذين حملوا اغانيهم من اجل اسعاد العالم ، في روايتي هذه كان صوتهم نشازا لحزن ان يترك جنود بلادهم في مقابر البلاد الغريبة وتعجز حكومتهم عن دفع رواتب حراس تلك المقابر .

 

 

أخترنا لك
يقظة اللاوعي.. وذاكرة تتلاشى في الصور

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة