مجموعة "أزهار أرض باخوس" للشاعر المغربي كريم أيوب، الصادرة عن "مؤسسة الموجة الثقافية"، طبعة أولى 2019، هي مجموعة تُغلق عوالمها على الكائن العدمي، وكل معتدّ بالجاهز، أو الأرض المعدّة، مقابل الاحتفاء بكتابة ما بعد مرحلة السقوط، أي النهوض الذي تمليه التجارب الحياتية الحارة والصادقة، وهي بذلك ممارسة تمتح من أدغال المنكسرين والمنكوبين، الذين يؤمنون بحلمهم ويصرّون على تحويل واقع المحن إلى منح، وسائر ما هو سلبي إلى ثمار الإيجابية، مسجّلين بذلك صوراً مختلفة للتمرد والعصيان والنضال ضد كل روح انهزامية أو أي شكل من أشكال تنويم الطاقات الدفينة كضرورة لقلب القواعد وتغيير الذات والغير والعالم، صوب الأجدى والأفضل.
إنها كتابة انقلابية من خارج النص، تستفز بمنظومة قيمية جديدة ومغايرة، يعتبر الإنسان نواتها الأولى، وبؤرة أسئلتها وهواجسها الضاغطة.
تقع هذه المجموعة في مئة صفحة من القطع المتوسط، وقد سخّرت مجمل تيماتها للانتصاف لإنسانية الكائن، وكيف أن الأرض، ليس أقدس من هذا الكائن وهمومه وقضاياه المتشابكة والشائكة.
من هنا، فهي فعل إبداعي خارج النص أو أي سياق آخر ، سواء أكان تاريخا أو مكانا أو ذاكرة حتّى، كون الإنسان هو الممثل الوحيد لمركزيتها، ونقطة توازنها، ومن دونه يعدّ الوجود مجرد جيوب من الفراغ والمتاهات المطفأة.
إن معجم هذه المجموعة وإن أسرف في خطاب البساطة والسلاسة، تارة، وداعب بأبراج الغموض، تارة أخرى، نجده يشاكس حظوظا معينة من الحياة وكرامة وإنسانية الكائن، كي يقدم العصارة أو الثمالة التي تضمّد في الأخير، جراحات جور الأوطان، وتتباهى بحس الانتماء الذي تلعب الذات عبره ومن خلاله، أدوارا طلائعية ومختلفة لصناعة المصير الإنساني السليم والفطري والبريء، بمنأى عن لعنة الإيديولوجي، وكذلك لوثة العقدي بشتى مناحي تعقيداته وتشويهاته التي تولّد عنها خنق حرية الإنسان،ومصادرة أحلامه المشروعة.
غلاف المجموعة.نسوق من الديوان، المقتطف الآتي:
[وأجنحة خالدة
فأجثو لأبني بأحجارها
بقايا عقيدة
على هذه الأرض تنمو بذور الرماد
وتمشي في حقلها
طيور المهاد
وتزرع في حقفها نار نيرون
تؤجج عطر
المكيدة
على أرضنا معبر للطيور
تحلق.. تحمل أمنيتي في البقاء] (1).
لن تحوز الكتابة ذروتها، ما لم تتأسس على خلفية شعرية السقوط ،وما يتبرعم عنها من شعريات موغلة في أنساق بناء الذات والعالمية والحيوات ، على حدّ تعبير رابندراناث طاغور ، والذي اقتبست له المجموعة بعضا مما يترجم ذلك.
إنه سقوط بمعنى التجاوز وتأمم الخلاص الإنساني والوجودي، وهي جملة من المفاهيم تتبطن بها فلسفة هذه الأضمومة في احتفائها بإنسانية الكائن، تماما، مثلما أسلفنا.
نقرأ له كذلك قوله:
[هناك
تمخض راعي القطيع
ينفض عنه أشلاء الصريع
ويرمي البقايا نحو النهر
تغرق أزهار البشارة
على السيل تطفو الخرقة البيضاء
ودم البكارة
يرفعها القدر وسط حناء الهدايا
ترسم ألوانها الطيف
تنثر أنفاسها ثآليل المهاد
تعلن أجسادها رتق الضحايا
على ضفته
حجارة
يغسلها الغثاء
والعرايا
تحفظ بياضها الأزلي
في ثوب المنايا](2).
من هنا، نلفي كتابة المجموعة بياضا يفسّره بياض يعقبه، كي تتحقق تلكم المسافة بين مركزية الكائن وجغرافيا مأساته.
كما أن النهل المكثف من ذاكرة الإنساني، وخزائن الموروث، والاستحضار المرتجل للرموز، اقتضاه سياق ساعة الثأر لنورانية الكائن المهدورة، وامتحانه بمتوالية ما يسومه تقليص حريته ،و سلب إرادته، وتغريب روحه وعزله عن أفق حلمه المذيّل بآفاق الخلاص ونجدة الكون.
إذ الكتابة، من المفترض أن تتمرد من خلالها الذات على القيود، وتؤمن بحيز حريتها الكامل ، كي تجنى فوائد المقامرات الوجودية ،وتصنع الاستقرار النفسي ومعه سلامة وجمالية وصحة المحيط.
وفي مناسبة أخرى تعكس تصعيد إيقاعات الانغماس في شعرية السقوط البانية للذات والآخر والعالم وألوان الجمال والحياة ، نطالع أيضا:
[على الهامش أزهار
تشترى
على الخد أرض
تشترى
الأوليغارشي
يبني السلالم
بلا دليل
يقتلع الجذر الهزيل
بغز برجله الأزهار النازفة
سالت ذبولا
على الغطارفة
يسعى للبقاء
الورق والأرق
وأياديهم
ومدات رقيقة
هنا الإصر فها أنت أهل الطلوع
هنا نزيف الأيام لأهل الخنوع
هناك آتيك متأملا والبزوغ
عند بزوغ ــــ المعنى ـــ والحقيقة](3).
لذا، وبمعنى ما، كتابة الانكسار أو السقوط، هي ضرب من بحث عن معنى مضاد ،وتصيّد لحقيقة ما ، تنهدّ له القيود والأعراف وقواعد الجاهز والقشيب، وتتبدّد لها أنانيات الإيديولوجي والعقدي، بما يتأتى له الانصهار في روح ثقافة التجاوز المسكونة بلغة التعايش والتسامح ومنح القداسة لإنسانية الكائن.
لقد فسّرت بياضات المجموعة عدة عقد ،دونما الزيغ عن موضوعة الانتماء، وفجرت الأسئلة والأحاسيس التي تضع إنسانيتنا فوق ما سواها من قضايا التشكيك والاختراقات.
إنه فعل السقوط كما استكنهته وسبرت ماهيته، هذه المجموعة الباذخة، وهي ترسم ملامح شعرية الثأر لإنسانية نازفة ومغيّبة.
أو لعلها كتابة تحرج واقع الانكسار، مستسلمة بالتمام، لبرزخية انتظار وترقّب البشارة التي تليق بنبي، هو في أحد أوجه وجوديته، شاعر عصي على السقوط، مكابر، يأبى إلاّ أن يتسربل بعنفوان مجابهة انكسارات الذات، ومآسي الوطن.
هامش:
(1)مقتطف من نص "سقوط الأرض الخالدة"، صفحة 12/13.
(2)مقتطف من نص "ثآليل يلقيها النهر"، صفحة59/60.
(3) نص "أزهار عدمية" صفحة86/87.
*شاعر وناقد مغربي