بقلم | مجاهد منعثر منشد
ملائكيةٌ منْ صُلبِ البَدرِ المُتأَلِّقِ في السَّماءِ المَظلومِ بالأَرض, بَراءتها وسكونُ ملامِحِها كبراءةِ جَدَّتِها الطَّاهرةِ البتولِ, نورُها كالقَمَرِ المُنيرِ .
عادَ شَريطُ ذكرياتِهَا ....!
سَمِعَتْ أَباها سِبطَ حَبيبِ اللهِ يُحدِّثُ ابنَ عَمِّهِ: قد شاءَ اللهُ أَنْ يَرَاهُنَّ سَبَايا!
سَارتْ بقَدمِيها الصَّغيرتينِ, تُهَمْهِمُ: هلْ ستأخُذُنِي يا أَبتي مَعَك؟
دَخَلَ الأَبُ, فَهَروَلَتْ تُعانقُهُ وتقبِّلُهُ, هَمَسَتْ: أَبَتَاهُ أَتأخُذُني في الرِّحلةِ؟
تَبَسَّمِ في وجهِها الزَّاهرِ , سأَلها: أَلَاْ تَخافينَ الظَّمأ ومَشقَّةَ الطَّريق؟
ـ رَدَّتْ: لله , وبينَ يديكَ روحي فِداكَ.
هلَ شَعَرَتْ بإراقةِ دَمِ أَبيها الطَّاهرِ ؟ بما هو آتٍ من نَكَبَاتِ هذهِ الرِّحلة؟
خرجَ سبطُ سيِّدِ الخَلقِ من المدينةِ يحملُ حَرَائرَ بيتِ الرسالةِ ويدُهُ تلاصقُ يدَ الطِّفلةِ الصَّغيرةِ التي تُشبِهُ يَدَ الدُّميةِ, لاتفارقُهُ حتى تَتَمنَّى يكون ليلُها صُبحاً, لترى نورَ أَبيها, لا يَهمُّها عناءُ السَّفرِ ووحشَةُ الصَّحراءِ وسيوفُ الشَّياطينِ, كلُّ هذا في عينِها كَمَدٌ .
تُسَامرُ أَهدابُها المفتوحةُ حَدَقَاتِ جَسَدٍ كجَسَدِ رسولِ اللهِ, بعدَ أَيام سيكونُ مُرمَّلا بالدماءِ على عَرَصَاتِ كربلاء, تفتحُ عينيها الواسعتينِ على هيبةٍ وسكينةٍ لا توصَفُ.
نزلوا الطَّفَّ, أَلصَقَ طفلتَهُ بحجرهِ, احتَضَنَها هامساً: سأَلحَقُ بالمصطفى والمرتضى قريبا!
ـ سالتْ دموعُهَا على خَدَّيها كزخاتِ المَطَرِ : ياأَبتاهُ لا تتركني, لا حياةَ دونَكَ .
تبسَّمَ هامساً: سَلي اللهِ اللقاءَ؟
في الليلةِ الظلماءِ وبصوتٍ تَقشَعرُّ له الأَبدانُ ودَّعَ أَهلَهُ منادياً: يا أُختاه! يا أُمَّ كلثوم، وأَنتِ يا زينبُ، وأَنتِ ياسكينةُ وأَنتِ يا رقيةُ، وأَنتِ يا فاطمةُ، وأَنتِ يا رَبابُ، انْظُرنَ إذا أَنا قُتلتُ فلا تشققنَ عليَّ جيباً، ولا تَخمُشْنَ عليَّ وجهاً ولا تَقُلنَ عليَّ هجراً.
تَتَجلَّدُ ,وسيلُ الدَّمعِ يتساقطُ على وجنتيها: كلا, لا أَظنُّ الظنونَ, أَنا كما أَرادني سيِّدُ شبابِ أَهل الجَنَّةِ.
ضمَّها إلى صدرهِ, مَسَحَ دموعَها, هَمَسَ: صَلِّي, اسأَلي اللهَ ما تُحبينَ.
انتابَتها غيبوبةٌ, انقطعَ النَّحرُ الخَضيبُ فوقَ الرِّمالِ.
تكفكفُ دموعَها, كلَّما أَفاقَتْ سأَلتْ عمَّتها العقيلةَ: عَمَّتي أَين أَبي لِمَ لا يَأتي أَبي؟
ـ أَبوكِ سافرَ وغداً تلتقينَهُ عندما يعود.
غَدَتْ مظلومةً محزونةً , استيقظتْ مرَّةً أخرى , رأَتْ مُخدَّراتِ الرسالةِ مكبَّلاتٍ بالسَّلاسِلِ والقيودِ , يغطي حجابَهُنَّ الترابُ, سأَلتها عمَّتها: أَتشرَبينَ الماءَ؟
رَدَّت: عمَّتي لا أُريدُ ماءً, لا أَشربُ حتَّى يأتي أَبي؟
ذَبلتْ الوردةُ الجميلةُ, أَصابَها الإعياءُ,
نَهضَتْ تَتَرَنَّحُ يميناً وشمالاً , وتَجُرُّ برجلَيها نحو سَجَادةِ صلاةٍ, كعادتِها فَرَشَتها لأَبيها تنتظرُ قدومَهُ, غلبَها النومُ فرأَتْ في منامها: كأَنَّها تُقبِلُ مهرولةً نحوَ أَبيها, ترفعُ يديها لتعانِقهُ, استيقظتْ أَجهشَتْ بالبكاءِ وضَجَّتْ بالنَّحيبِ, صَرَخَتْ: قرَّةَ عيني حُسين , أَبي حسين , حَبيبي حسين.
تكررَ القولُ بصراخٍ يُقطِّعُ نياطَ القلب مرةً تلو الأُخرى, تحاولُ النِّساءُ التَّخفيفَ من رَوعِها دون جدوى, فأَبكَتْ مَنْ حولَها, نادى الجميع معها: وا حُسيناهُ .. وا إماماهُ ...
سَمِعَ يزيدُ الصُّراخَ , فاشتاطَ غضباً , ليطلقَ عنان لسانِهِ بالرِّجسِ والحِقدِ , فسأَلَ زبانيته؟
ما هذا البكاءُ والنَّحيبُ؟
ردوا عليه: إنَّها طفلةُ الحسينِ, رأَتْ أَباها بالمنامِ, تريدُ أَنْ تَراهُ.
نظرَ إلى قائدِ عَسكرهِ فأَمَرهُ وحاشِيَتَهُ: خُذُوها لرأسِ أَبيها تَتَسَلَّى به!
أَتوا إليها برأسِ والدِها بإناءٍ مُغَطَّى بمنديلٍ ووضَعوهُ بينَ يديها.
صَمَتَتْ, سأَلتهم: ما هذا أَنا لم أَطلبْ طَعاماً؟ أُريدُ أَبي؟
ـ قَهقَهَ: هذا أَبوكِ.
كَشَفَت الغِطاءَ, صَرَخَتْ صرخةً تدكُّ الجبالَ وتفتتُ الصَّخور : واحسيناهُ وا ابتاهُ, ضَمَّتهُ إلى صدرها, كَلَّمتَهُ: يا أَبتاهُ مَن الذي خضّبَكَ بدمائكِ؟ يا أَبتاهُ مَن الذي قطعَ وريدك؟ يا أَبتاهُ مَن الذي أَيتَمَنِي على صِغَرِ سِنِّي؟ يا أَبتاهُ مَن بَقِي بعدَكَ نَرجوه؟ يا أَبتاهُ مَن لليتيمةِ حتّى تكبر؟
لَثِمَتهُ, قَبَّلتْهُ بفيهِ, وغَشِي عليها من البكاءِ, شَهقَتْ, اقتربتْ منها العقيلةُ, حَرَّكتها, فارقتِ الحَياةَ .