*(ولادة القمر )

2025/01/31

بقلم | مجاهد منعثر منشد

كلَّما مَرَّت الليالي , يَزدادُ الهِلالُ وضوحاً , تسألُ خالقَها : رَبَّاُه..  ما هذا الهلالُ لا يَشبَهُ سِواهُ من أَهلَّةِ الشُّهورِ؟

تشرقُ بدمعِها حينَ تَرَى دَمعَ الإمامِ , الأَمرُ سِرٌّ, لعلَّها تَخشى أَنْ تسأَلهُ؟

انتصَفَ الشَّهرُ , تَمَاثلَ الهلالُ بدراً , يرتجفُ فؤادُها كلَّما تَذكَّرتْ رؤياها ,تربطُ بينَ هذا القَمَرِ الحزينِ , وقَمَرِ رؤياها التي تأَوَّل بشبلِ أَميرِ المؤمنينَ .

تتوالى الليالي , مَرَّتِ السَّاعاتُ , في شَعبانَ منَ السنةِ السَّادسةِ والعشرينِ للهجرةِ , تنتظرُ النِّداءَ يطرقُ مَسامعَها أُمَّاهُ!

تبسَّمَتْ بدموعٍ , أَهي دموعُ الفَرَحِ لبلوغ نَجلِهِ الحَبيبِ منَ الثلاثة والعشرين , أَم ذكرى تلوحُ في أُفُقِ الغَيبِ ,تماماً كما تلوحُ الدَّمعةُ في عيني أَبي السِّبطينِ فتأبى النُّزولَ !

انتصَفَ الليلُ ويكادُ ينصرمُ ,جَنينُها تأَهبَ للخروج , استكانتْ بهدوءٍ , ليخرجَ بلا ضَوضاء , فلا يقضُّ مضجَعَ مولاها ومولاه إمامَ المتَّقينَ .

نهضَ أَميرُ المؤمنينَ قبلَ صَلاةِ الَفجرِ , اصطَحَبَ الحسنينِ معه , أُمُّ البنين , صَمت !

اشتدَّ الطَّلقُ وطأةً, أَتقلَقُ حَبيبَتَها الحوراءَ وتزعجَها؟

لابدَّ من حضورِ مَنْ يتلقَّى الأَمانَةَ بين أَضلاعها , قَدِمَتْ زينبُ على وَجهِ السُّرعةِ , سَمِعَتْ بخَطَواتها , سَأَلتها أَنْ تُمنِّي القدومَ عليها في حِجرَتِها ؟

أَحسَّتْ أُمُّ البنينَ على غيرِ عَادتِهَا , بضَعفِها وشُحوبِ لونِها , عَلامَاتٍ لم تَرتَسِمْ على مَلامِحها من قبلُ, تُجاهدُ نفسَها مبتسمَةً في وجهِ الحَوراءِ !

سَأَلتها بلهفةٍ : أُمَّاهُ , مِمَّنْ تَشتكينَ ؟

سيِّدتي ومولاتي : أَظنُّها آلامَ المَخاضِ ؟

اعتصَرَ قَلبُ زينب , ابتهجَتْ لأُمٍّ حَبيبَةٍ نذرتْ نفسَها لَهُم , قلقَتْ , أَرسَلتْ بحضورِ القابلَةِ , جهَّزتْ مكانَ ولوازمَ المولودِ , عَادَتْ لأُمِّها تُلاطفُها بحديثها الرَّقيقِ المُحَبَّبِ.

شَقَّتِ الأَسماعَ المتلهفةَ صرخةٌ , خَرَجَ نورٌ ساطعٌ  ملأَ المَدى والصَّدى يجيبُه فرحًا...

ولدَ ناصرُ الحُسينِ , نورُهُ يباهي الشَّمسَ في اشراقِها , وهاهي الملائكةُ تَصعَدُ وتَهبطُ, تباركُ أُمَّ البنينِ وزينبَ ولادةَ الكَنزِ الكبير .

قُرِعَ البابُ . هو قنبرُ غُلامُ الإمامِ , يسأَلُ : ما سِرُّ الحَركةِ في أَرجاءِ البيتِ ؟

وحَمَلَ طلباً للحوراءِ من أَبيها , اعطتْهُ طلبَهُ الذي تعرفُ مكانَهُ , سأَلها :

مولاتي هل أَزِفُّ البُشرى لمَولاي ؟

أَجابتهُ بهدوءٍ وفرحٍ , بَلى ياقَنبر , إنَّها أُمُّ البنين.

خَطَواتٌ , بلغَ الخَبرُ الإمامَ , دَخَلَ بلهفةٍ واشتياقٍ , أَقبلتْ عليهِ زينبُ يشعُّ في عينِها أَلقٌ لم تَعهدهُ حتَّى عند ولادةِ ولدِها, وضَعَتهُ بينَ يديهِ, هو الطفلُ الموعودُ , ملفوفاً بقماطٍ أَبيضَ , لا يزيدُ بياضُهُ على نُصوعِ طَلَّتهِ البهيَّةِ .

تلقى ولدَهُ , حدَّقَ بين ثنايا قماطِهِ , يشعُّ كالشَّمسِ , تبرقُ أَساريرهِ , تَتَلاقى عيناهُ بعينيهِ النَّجلاوينِ , راحَ الإمامُ يمررُ لسانَهُ الشَّريفَ على عَيني الطفلِ وفَمِهِ وأُذنيهِ!

أَقبلَ أَميرُ المؤمنينَ يَضمُّهُ , يَلثمُهُ , هَنَّأ الوليدَ بضَمَّةٍ فَتَنَهَّدَ , أَنفاسُ الجنَّةِ تَشرحُ  صدرَهُ  فيتنشَّقَها مِلءَ أَنفاسِهِ , وأَنوارُ الآخرةِ تنيرُ دربَهُ وناظريهِ.

أَذَّنَ في أُذُنِهِ اليُمنَى , وأَقام في اليُسرى , فأَدخلَهُ على زوجتِهِ التي ارتسمتْ علائمُ السُّرورِ على مُحياها , هَنَّأَها بالمولودِ , لعلَّهُ خاطبَها : بوركَ لكِ هذا المولودُ , بوركَ لكَ هذا الشِّبلُ , بوركت من لَبؤةٍ تَحمِي ذِمارَ العَرين .

تَمَطَّى المولودُ في قِمَاطِهِ , قطَّعهُ !

تذكرَ الإمام نزولَ جبرائيلُ على النَّبيِّ وأَخبرَهُ الخبرَ!

تساقطتْ دموعُهُ , انحدرتْ على كريمتِهِ , تساقطَتْ على القِماطِ المَقطوع , أَجهشَ بالبكاءِ , سأَلتهُ بحرقةٍ :

ما يُبكيكَ يا أَميرَ المؤمنينَ , أَليسَ هذا المولودُ الذي تَنتظرهُ ؟

مَسَحَ دموعَهُ,  كيفَ يُخبرُها ما تَغيبهُ سجوفُ الغَيبِ؟

قد تموتُ غَمّاً إذا علمتْ ما سيجري على حبيبِها الصَّغيرِ , أَجابَها برقَّةٍ وحزنٍ : لا يا أُمَّ البنينَ , تذكرتُ ما جاء به جبرائيلُ لحبيبي محمَّدٍ بشأنِهِ , علمتُ أَنَّهُ سيكونُ ناصراً للحسين !

سأَلتهُ الحوراءُ : ما سَتُسَمِّيه ؟

ـ نَطَقَ بصوتٍ هادئ :إنَّهُ العبَّاسُ , كُنيتُهُ أَبو الفَضلِ .

هو قَمَرُ بَنِي هاشم , وهو السَّقَّاءُ.

هل تحققتْ رؤيا أُمِّ البنينَ , ويا ترى أَطابقَ الحدثُ تأويلَ ثمامة ؟

 

أخترنا لك
إبداعات.. القيم الثقافية ومواكبة التحديات الراهنة

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة