إشعاع التنوير في واقع مظلم

2020/02/23

لم يكن المشهد السينمائي الخليجي قد تشكّل في عام 2001م، بل لم تكن هناك أية بوادر توحي بتشكله في المستقبل المنظور، في ظل سيطرة مطلقة للدراما التلفزيونية، وانعدام صناعة الفيلم وقلة المهتمين بها. لذلك يمكن اعتبار مغامرة الشاعر الإماراتي مسعود أمرالله آل علي في تنظيم المهرجانات السينمائية بمثابة اللبنة الأولى لمعمار السينما الخليجية عندما أسس مسابقة «أفلام من الإمارات» عام 2001م تحت مظلة المجمع الثقافي بأبوظبي، لتصبح الرحم الأول الذي سيتخلّق فيه جنين السينما الخليجية.

كانت فكرة مسعود أمرالله تتركز في ضرورة جمع القوى الخليجية المشتتة في سياق واحد لتزداد الفاعلية ويتكوّن التيار السينمائي الذي سيعمل بدوره على تحريك عجلة الإنتاج وزيادة أعداد المنضمين لهذا التيار. وهذا ما حدث بالفعل، فبعد دورة أولى فقيرة نسبياً ومحدودة بالسينمائيين الإماراتيين عام 2001م، بدأ الاهتمام الخليجي بهذه المسابقة ينمو شيئاً فشيئاً، وتكاثرت المواهب، وازداد عدد الأفلام الخليجية المنتجة عاماً بعد عام، لتنتقل الرعاية بعد ذلك إلى مهرجان دبي السينمائي الذي خصص مهرجاناً للأفلام الخليجية ابتداء من العام 2008م تحت اسم «مهرجان الخليج السينمائي» وبإدارة مسعود أمرالله نفسه.

تعطي هذه التجربة المُلهمة دلالة على أهمية الدور الذي تلعبه المهرجانات السينمائية وضرورة استثمارها في صقل المواهب وتنمية إنتاج الأفلام كماً ونوعاً. يُردد مسعود أمرالله دوماً هذه المقولة: «هدف المهرجان توريط أكبر عدد ممكن من الشباب»، ويقصد بذلك أن إحدى وظائف المهرجان في دول ناشئة سينمائياً مثل دول الخليج هي استقطاب المواهب الشابة والسعي لإقناعها بالاستمرار في صناعة الأفلام. وبالنسبة لواقع سينمائي خليجي ما زال يُجاهد للإعلان عن نفسه، فإن ظهور سينمائيين خليجيين مهمين خلال العقدين الماضيين، مثل هيفاء المنصور وعبدالله آل عياف ونواف الجناحي ومحمد وعبدالله حسن أحمد، واستمرارهم وتطورهم، يعود الفضل الأكبر فيه للمنصات السينمائية التي أطلقها مسعود أمرالله والتي رعى خلالها الكثير من المواهب الشابة منذ يفاعتها إلى أن استقرت على اختيار صناعة الفيلم كمجال عملي دائم في حياتها.

أخذت المهرجانات السينمائية الخليجية دور الحاضنة التي ترعى نمو التيار وازدهار الصناعة، وهذا الدور الذي يتجاوز الدور الكلاسيكي للمهرجانات المتمثل في عرض الأفلام، يعد خصيصة خليجية سرعان ما امتد أثرها نحو العالم العربي من خلال مهرجان دبي السينمائي، وأثمر ذلك عن تطور لافت في مستوى الأفلام العربية على الأقل من ناحية إنتاجية وشكلية. كما أثر على مستوى التنافسية بين المهرجانات العربية والمفهوم الذي ينبغي أن تسير عليه في فضاء سينمائي عربي لم ينضج بعد، وقد جاء انعكاس هذا المفهوم سعودياً من خلال مهرجان «أفلام السعودية» الذي تبنّاه الشاعر أحمد الملا منذ العام 2008م وجعله منصة لاحتواء المواهب السعودية، يقدم لها الدعم والاهتمام والرعاية، في سنوات لم يكن السينمائي السعودي يجد فيها أي منصة عرض داخل بلده.

وسيجد هذا المفهوم الداعم والحاضن والراعي حيزاً مهماً في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي الذي سينطلق في مدينة جدة غربي المملكة مطلع عام 2020م برئاسة السينمائي السعودي محمود صباغ، الذي أعلن عن تقديم مجموعة من المبادرات الداعمة لإنتاج الأفلام السعودية والعربية، مثل معمل الأفلام وصندوق تمهيد، بمنح تمويلية تصل إلى 500 ألف دولار لإنتاج الفيلم الواحد، في توسيع لنطاق عمل المهرجان السينمائي ليمتد إلى الدعم المباشر للمخرجين الشباب ومساعدتهم على الإنتاج لضمان استمرارهم و«توريطهم» مثلما يقول مسعود أمرالله.

هذا النوع من المهرجانات مرتبط بالخليج بالدرجة الأولى، لخصوصية الواقع الخليجي وحداثة التجربة السينمائية فيه. ورغم أنه يخرج عن الاختصاص الرئيس -أو الكلاسيكي- للمهرجانات المتمثل في العرض والتوزيع حصراً، إلا أنه وفر للسينمائيين الخليجيين البيئة الحاضنة التي يحتاجونها حتى تشتد سواعدهم وتُصقل مواهبهم، وهو ما لن يجدوه لو أن هذه المهرجانات ركزت على العرض فقط.

وحتى لا يفهم أن المقصود هو التقليل من أهمية عرض الأفلام في المهرجانات، فلابد من القول إن المهرجان السينمائي بوصفه منصة مهمة للاحتفاء بالمنجز السينمائي باختلاف أنواعه، يمارس في الوقت ذاته دوراً داعماً للصناعة على الأقل من ناحية لوجستية، حيث تجمع المهرجانات أرباب الصناعة وتخلق فرصاً للتعاون والبيع والشراء، خصوصاً في أسواق التوزيع المرتبطة بهذه المهرجانات، فضلاً عن الندوات والورش والمؤتمرات التي تقام على الهامش والتي يتم فيها نقل التجربة من الخبراء في الصناعة إلى شريحة واسعة من المهتمين.

مهرجانات عريقة مثل «كان» و»برلين» و»البندقية» لا تقدم تمويلاً مباشراً للإنتاج لكنها توفر أسواقاً سينمائية مهمة يجد فيها موزعو الأفلام فرصة لتسويق منتجاتهم الفيلمية، جنباً إلى جنب مع صناديق الدعم الدولية التي تشارك بكثافة وفعالية في هذه الأسواق. كما أن عرض الأفلام في المهرجانات، سواء في الاختيارات الرسمية أو العروض الموازية التي تتم على الهامش، تمنح الأفلام فرصة أكبر للانتشار في أسواق العالم. وإضافة لذلك تمارس هذه المهرجانات دوراً نقدياً مؤثراً يتمثل في توجيه الصناعة السينمائية نحو مناطق إبداعية جديدة في أسلوب السرد والتصوير والموضوع، ويشهد التاريخ الحافل للسينما على القدرة التي تمتلكها المهرجانات في إلهام المخرجين وتوجيههم نحو جماليات جديدة وصياغات مختلفة للغة السينمائية.

وفي أمريكا يتألق مهرجان «صندانس» السينمائي بوصفه أهم منصة لإطلاق صنّاع الأفلام المستقلين في العالم؛ أولئك الذين يصنعون أفلاماً تتجه نحو مناطق إبداعية لا تجرؤ على إنتاجها الأستوديوهات الكبيرة، موفراً لها سوقاً كبيرة للتوزيع يعد أهم زبائنها -ويا للمفارقة- الشركات السينمائية الهوليوودية.

هذه المهرجانات الدولية، وغيرها كثير، تنشط في واقع سينمائي فعّال يموج بالمنتجين والمخرجين والفنيين من كل تخصص، وسط بنية تحتية راسخة، وشبكة توزيع متكاملة، وعليه فإن دورها في عرض المنتج السينمائي هو الدور الأهم المنتظر من مهرجان سينمائي يقع في إحدى عواصم الإنتاج العالمية، مع ما يترتب على ذلك من تسويق وتنمية وتطوير واستمرار لعمل ماكينة الإنتاج. وهذا بخلاف المهرجانات العربية التقليدية مثل القاهرة ومراكش ودمشق سابقاً، التي تفتقر للسوق المؤثرة في توزيع وتسويق الأفلام، مكتفية بالأجواء الاحتفالية التي تتوقف عند حد عرض الأفلام ولا تتجاوزها إلى ما هو أبعد من ذلك. أما الاستثناء فقد جاء من المهرجانات الخليجية التي اضطلعت بأدوار مهمة تتعلق بدعم الحراك السينمائي في منطقة الخليج وفي العالم العربي على حد سواء.

إن نظرة على مستوى السينما العربية منذ العام 2004م -تاريخ إطلاق مهرجان دبي السينمائي- تعطي إشارة مهمة على الأثر الحاسم الذي صنعته المهرجانات الخليجية عربياً، وتؤكد الأهمية التنموية للمهرجان السينمائي، إذا جعل تطوير الصناعة هدفاً رئيساً له. لقد أدركت المهرجانات الخليجية أن الواقع السينمائي السيئ في المنطقة العربية يضع على عاتقها مسؤولية البناء والنهوض بالصناعة، ليس من الصفر، بل من تحت الصفر في كثير من الأحيان، وتهيئة القاعدة البشرية التي ستعمل على تأسيس البنية التحتية لإنتاج سينمائي عربي مستمر.

هذا الإشعاع السينمائي الخليجي الذي منح أملاً ونَفَساً جديداً للسينما العربية، انطلق عام 2004م مع مهرجان دبي السينمائي ثم مع مهرجان «الشرق الأوسط» أبوظبي السينمائي، بمبادرات تمويلية كبيرة من صناديق تمويل وشركات إنتاج وطنية مثل برنامج إنجاز و»إيمج نيشن» أبوظبي، ثم انتقلت شعلة الإشعاع إلى مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي الذي يَعِدُ بمبادرات مماثلة. وهكذا يأتي مهرجان خليجي ويغيب آخر لكن شعلة الدعم والتطوير مازالت متوهجة.

هذا النموذج الذي تقدمه المهرجانات الخليجية هو النموذج الأمثل لدعم السينما الخليجية أولاً ثم عموم السينما العربية، وهو الأكثر ملاءمة لواقع عربي فقير يحتاج مبدعوه إلى دعم ثابت لضمان استمرارهم في الإنتاج ومن ثم ضمان تكوين شبكة من الموزعين والمستثمرين والمنتجين القادرين على العمل في بيئة سينمائية مستقرة وراسخة. وتحقيق هدف مهم مثل هذا يجعل للمهرجان السينمائي في الخليج دوراً رِسالياً وتنويرياً وثقافياً أخطر من الأدوار الكلاسيكية التي تضطلع بها المهرجانات الدولية الكبرى.

أخترنا لك
قراءة عميقة في كتاب رحلة القمر للكاتبة قمر بقلم:ديانا ابو عياش

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة