تشارلز ريتشارد كرين.. صديق المملكة العربية السعودية

2020/02/23

 

حينما كتب جورج أنطونيوس كتابه الشهير، يقظة العرب؛ كتب عبارة الإهداء التالية في بداية الكتاب: (إلى تشارلز ر.كرين، الملقب بهارون الرشيد عن جدارة، رمزاً للمودة). يعد السيد تشارلز كرين من الشخصيات الأمريكية الشهيرة التي ارتبط اسمها بتاريخ المنطقة بشكل عام والمملكة العربية السعودية بشكل خاص. ولم يحظَ كرين بدراسة شاملة -باللغة العربية- تدرس حياته وأعماله، وافتتانه ببلاد العرب، ودوره المؤثر فيها. وهذا المقال هو أولى سلسلة من المقالات التي تتحدث عن حياة هذا الرجل، ويعطي لمحة عن حياته ودوره في ترسيخ أواصر العلاقة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية.

ولد تشارلز ريتشارد كراين (Charles R. Crane) في شيكاغو عام 1858م، وهو الابن الأكبر بين تسعة أبناء. ولم تكن حالته الصحية جيدة في طفولته، لذلك لم يذهب للمدرسة في صغره إلا في أعوام قليلة، وكان والده يعتمد على تعليمه في المنزل. كان والده من كبار أرباب الصناعة في مجال صناعة الأنابيب والتمديدات المنزلية المصنوعة من معدن النحاس، وقد توسعت أعماله كثيراً حتى أصبح مصنعه في فترة من الفترات من أكبر مصانع العالم في هذا المجال.

كان كرين كثير السفر، وقد يكون لإصابته بالملاريا ونصح الأطباء له بضرورة الترحال والانتقال من مكان لآخر دور كبير في ذلك، حتى تتغير البيئة والأجواء بالنسبة له. بدأ رحلاته عام 1877م، وذلك حينما زار أوروبا، ومنها زار الدولة العثمانية (إسطنبول وبلاد الشام)، كذلك قام بزيارة لمصر والقدس والأماكن المقدسة للمسيحيين. ومما تجدر الإشارة له أن زيارة كرين للدولة العثمانية تزامنت مع الحرب الروسية العثمانية، وقد عبر كرين عن مشاعره الموالية للروس. كانت هذه الزيارة هي الأولى له، وهو قريب من عمر العشرين، وسوف تتكرر زياراته للمنطقة على مر السنين. كما زار روسيا أربع مرات ما بين عامي 1887م-1937م، وقام بزيارة منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى اللتين كانتا تحت الاحتلال الروسي، وقد لبث في بخارى فترة من الزمن تخللها شهر رمضان، وكذلك زار سمرقند، وقد حضر الدروس العلمية في مدارسهما الضخمة، وزار الأضرحة الكبيرة في هاتين المدينتين. اهتم كرين بالترويج للتاريخ الروسي والثقافة الروسية، إذ قام بالتعاون مع جامعة شيكاغو لدعم برنامج محاضرات عن التاريخ الروسي يلقيها عدد من المتخصصين الروس، وكان من بينهم توماس جاريجوي ماساريك Tomáš Garrigue Masarykالفيلسوف التشيكوسلوفاكي المهتم للدراسات السلافية، والذي سيكون له دور كبير في تأسيس دولة تشيكوسلوفاكيا فيما بعد.

كان لكرين علاقة مباشرة وغير مباشرة ببعض الجهات الموجودة في الدولة العثمانية، والتي كان يدعمها من ماله الخاص، فقد كان الأمين ورئيس كلية البنات في إسطنبول (تغير اسمها إلى كلية إسطنبول النسائية)، وعضو مجلس أمناء كلية روبرت في إسطنبول التي زارها عام 1911م وتفقد أحوالها، وكذلك رئيساً لخزانة لجنة الإنقاذ للأرمن والألبان عام 1915م. من الجدير بالذكر أن كرين كان بروتستانتياً متديناً وناشطاً في المجال التنصيري، وقد يكون لهذا الأمر دور في نشاطه في المنطقة العربية وعلاقته مع الزعماء والأعيان العرب، خصوصاً المسيحيين منهم.

كما ساهم كرين مساهمة كبيرة في دعم حركات الانفصال في الدولة العثمانية، سواء في ألبانيا أو بلغاريا، وقد زار تلك البلدان عدة مرات وعرض مساعداته على أهالي تلك البلاد من أجل الثورة على الحكم العثماني. كذلك، كان كرين من أوائل المرحبين بثورة مارس في روسيا عام 1917م، حتى أنه طلب من الحكومة الأمريكية سرعة الاعتراف بها، وطلب من الرئيس ويلسون أن يسمح له بالذهاب إلى روسيا داعماً للثورة.

زار كرين بلاد الشام عام 1919م، حينما قام الرئيس ويلسون بتكليفه وهنري كينج لرئاسة لجنة تقصي حقائق للتأكد من قدرة الشعوب على حكم نفسها. مرت اللجنة في طريقها إلى بلاد الشام تركيا، وقد قابل كرين في بورصة الشيخ أحمد السنوسي زعيم الحركة الليبية المطالبة بالتصدي والنضال ضد الاستعمار الإيطالي، وقد استمرت علاقتهما لسنين طويلة، وكان معجباً بشخصية الشيخ أحمد. كما زار دمشق عام 1922م، وقد اتهم خلال تلك الزيارة بتمويل الثورة السورية، وحكمت عليه السلطات الفرنسية بالسجن عشرين عاماً، ولكن أحداً لم يعتقله. خلال فترة وجوده في سوريا عام 1922م، تلقى كرين دعوة من الأمير عبدالله بن الحسين أمير إمارة شرق الأردن لزيارة والده الشريف الحسين في جدة. وقد زارها عام 1923م وقابل الشريف الحسين الذي عرض عليه مراسلاته مع المندوب البريطاني في القاهرة السير آرثر هنري مكماهون.

قام كرين بعد ثلاث سنوات بزيارة تركيا، وزار قبر الفكاهي نصير الدين خوجة (جحا)، وكان مغرماً بقصصه، وكأن تلك الزيارة بدأت تطلق العنان لأفكاره بزيارة بلاد العرب القديمة. كان كرين في عام 1926م زائراً في القدس، وقابل السيد عبدالرحمن الشهبندر، وتحدثا عن الملك عبدالعزيز الذي كان قد استضاف الشهبندر خلال فترة لجوئه السياسي عنده. قام الشهبندر بتقديم كرين إلى مفتي القدس الشيخ أمين الحسيني، وقاما كلاهما بالكتابة إلى الملك عبدالعزيز للتعريف بتشارلز كرين ورغبته بزيارة الملك عبدالعزيز، وأخبراه بأنه (صديق العرب). تحمس كرين لتلك الزيارة، وكان قد رتب زيارة لليمن، فركب السفينة من مصر وأبحر إلى جدة لمقابلة الملك عبدالعزيز، ولكنه حينما وصل إليها علم أن الملك قد عاد إلى عاصمة دولته الرياض. قابل كرين نائب الملك في الحجاز الأمير فيصل بن عبدالعزيز، ولبث في ضيافته مدة من الزمن، ثم أبحر بعدها من جدة إلى عدن قاصداً زيارة الإمام يحيى حميد الدين إمام الدولة المتوكلية في صنعاء. قام كرين بالكتابة عن رحلته التي عبر خلالها البحر الأحمر. وما يهمنا هنا هو وصفه لجدة وأهلها التي رآها مدينة ضاربة في أعماق التاريخ، ولم تتأثر كما تأثرت غيرها من المدن بأشكال البناء الغربي وميادينه، وأنها مدينة نشطة تجارياً، يتوافد عليها الحجاج في طريقهم باتجاه مكة المكرمة. كذلك تحدث كرين عن أسواقها وطرق أهلها الحياتية والأعراق الموجودة فيها وأعيانها، وبالأخص محمد نصيف الذي كان منزله ملتقى أعيان المدينة.

لم تكن رحلة كرين إلى اليمن سهلة، فقد لاقى العديد من الصعاب، منذ وصوله إلى عدن ثم مسيره للحديدة من أجل الصعود إلى صنعاء. وقد وصف رحلته إلى اليمن وصفاً مختصراً، بينما وصفها مرافقه في تلك الرحلة نزيه مؤيد العظم وصفاً مسهباً، إذ كتب كتاباً أسماه رحلة في بلاد العربية السعيدة. قابل كرين الإمام يحيى، وقد كان مسروراً بزيارته لصنعاء التي رأى فيها مدينة تعود إلى العصور الإسلامية الأولى. عرض كرين خدماته على إمام اليمن الذي أراد أن يساعده كرين في التنقيب عن المعادن الثمينة في بلاده. تواصل كرين مع الممثل السياسي الأمريكي في عدن لودر بارك Loder Parkحتى يستطيع مساعدته في البحث عن جيولوجي يقدم خدماته للدولة المتوكلية في اليمن. لحسن الحظ، كان هناك جيولوجي أمريكي شاب قد وصل للتو لعدن بعد انتهاء عقد عمله في الحبشة، وكان في طريقه إلى الولايات المتحدة، وهو كارل تويتشل Karl Twitchell. قام كرين بتوظيف تويتشل لمساعدة إمام اليمن في البحث عن الثروات الموجودة بها، وقد قام تويتشل بالعمل في اليمن مدة خمسة أعوام، وكان له دور كبير في حفر العديد من آبار المياه الصالحة للشرب.

قام كرين بزيارة الملك فيصل بن الحسين ملك العراق عام 1929م في بغداد، وخلال وجوده في العراق خطط أن يسير من بغداد عبر الصحراء إلى الرياض عاصمة مُلك الملك عبدالعزيز. بدأ كرين رحلته من البصرة إلى الكويت مصطحباً ابنه جون وبعض الأصدقاء، وقد تعرضت مجموعته لهجوم من رجال القبائل الهاربة من الجيش السعودي، وتم إطلاق النار على سيارتي المجموعة، وقد قتل خلال ذلك الهجوم المنصر هنري بيلكرت، أما كرين فقد كاد يقتل ومن معه ولكنه استطاع الهرب مستغلاً أفضلية السيارة وسرعتها. وقد تلقى كرين رسالة من نائب الملك في الحجاز الأمير فيصل بن عبدالعزيز يعبر فيها عن غضبه من الهجوم الذي جرى عليه ومن معه. بعد عودته إلى البصرة، سار كرين منها في زيارة لسواحل الخليج العربي، وزار بعض موانئ الخليج العربي كبوشهر ودبي، وعندما وصل مسقط لبث فيها حوالي أسبوعين، وقابل فيها السلطان تيمور بن فيصل، وتبادل معه الهدايا، إذ أهداه سيارة فورد قدمت إلى مسقط بعد عدة أشهر، وتلقى من السلطان قارباً صغيراً (هوري).

تحققت أمنية كرين بلقاء الملك عبدالعزيز في عام 1931م، وذلك حينما وصل إلى جدة في فبراير عام 1931م قادماً من القاهرة، بعد التنسيق بين فوزان السابق وكيل الملك عبدالعزيز في القاهرة. نزل كرين في الميناء وتم استقباله استقبالاً رسمياً، وكان معه الكاتب الفلسطيني جورج أنطونيوس مترجماً. لبث كرين في جدة أسبوعاً، كان يقابل فيها الملك عبدالعزيز ثلاث مرات يومياً، وقد تبادلا خلالها الأحاديث الرسمية وغير الرسمية. تحدث كرين مع الملك عن أصول الحركة الإصلاحية في الجزيرة العربية، وكذلك عن توطين البدو والزراعة، إذ عرض عليه أن يرسل له -على حسابه- مختصاً بالنواحي الزراعية، وهو السوري راشد زيك الذي كان يعمل في اليمن لصالح إمام اليمن يحيى حميد الدين، وقد وافق الملك على ذلك العرض. كذلك قام كرين بالعرض على الملك عبدالعزيز أن يرسل له كبير الجيولوجيين كارل تويتشل، والذي كان يعمل في اليمن للمساعدة في إصلاح نظام الري في المملكة العربية السعودية وحفر الآبار ومعرفة المعادن الموجودة والكشف عنها. بعد انتهاء زيارته أهدى الملك عبدالعزيز لكرين جوادين أصيلين.

ساهم كرين بشكل كبير في مساندة الشعوب العربية، واستقطاب عدد منهم للدراسة في الولايات المتحدة، حتى أنه عرض على الملك عبدالعزيز أن يرسل معه أحد أبنائه للدراسة في الولايات المتحدة، ولكنه رفض ذلك العرض. ساهم كرين في استقطاب عدد من العرب للعمل في المعهد الذي قام بإنشائه، وهو معهد شؤون العالم في الوقت الراهن the institute of the current World Affairs. كان دور هذا المعهد هو تعيين موفدين في مناطق كثيرة من العالم لكتابة الأحداث الخاصة بها، وإرسال ذلك إلى مقر المعهد في واشنطن، وقد استفادت وزارة الخارجية الأمريكية من تقارير موفدي هذا المعهد، وقد كان من بينهم جورج أنطونيوس.

كما قام كرين قبيل وفاته، بعد أن خطا المشروع الأمريكي للتنقيب عن الزيت في المملكة خطوة كبيرة، وذلك باكتشاف الزيت بكميات تجارية، وبعد أن بدأت سحب الحرب بالتلبد في الأفق؛ قام بالكتابة إلى الرئيس الأمريكي روزفلت يخبره عما يعرفه عن الملك عبدالعزيز وصفاته القيادية، وأنه الشخصية المهمة الوحيدة في الجزيرة العربية، وينصحه بالتعامل معه. توفي كرين عام 1939م، وقد استحق أن يحمل لقب (صديق المملكة العربية السعودية ).

أخترنا لك
يوم الثبات الانفعالى أم زمن التشيؤ و تبلد المشاعر قراءة فى رواية سهير المصادفة

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة