«أدب الاعتراف»... لماذا تراجع في الثقافة العربية؟

2024/01/11

يتأسَّس على كشف المستور... وتعرضت أبرز نماذجه للمصادرة

يشير مفهوم «أدب الاعتراف» إلى القدرة على البوح وكشف المستور ومواجهة الذات والآخر بالحقائق التي قد تكون صادمة، وهو يشمل قوساً واسعاً من الأشكال السردية التي تتضمن المذكرات والسّير الذاتية والغيرية، واليوميات والتراجم وكذلك الروايات التي تتكئ على تجارب شخصية مباشرة. وتعد مذكرات الفيلسوف والأديب الفرنسي جان جاك روسو (1712 - 1778)، التي صدرت بعنوان «اعترافات روسو» بعد وفاته بأعوام عدة حجر الزاوية المؤسِّس لهذا اللون، حيث بدأها بعبارة «أنا اليوم مقبل على أمر لم يسبقني إليه سابق، ولن يلحق به لاحق». ورغم تعدد نماذج هذا الأدب في الفكر العربي، لا سيما في النصف الأول من القرن العشرين، فإنه تراجع بشدة في العقود الأخيرة؛ مما يطرح علامات استفهام شائكة. فهل الثقافة العربية لا تحتمل حرارة البوح... أم أن المثقف العربي هو مَن يجبن عن الحديث الصريح بلا مواربة؟، ثم هل أسهم ما لاقته نماذج الاعتراف الشجاعة من مصادرة وملاحقة في جعل الأجيال اللاحقة تؤثر السلامة وتخشى المواجهة؟

«الشرق الأوسط» تستطلع في هذا التحقيق آراء كتاب ونقاد حول هذا الأدب.

في كتابه «أدب الاعتراف - مقاربات تحليلية من منظور سردي»، يشير أستاذ الأدب والنقد الدكتور إيهاب النجدي إلى أن ما يجعل أدب الاعتراف محاطاً بتحديات هو طبيعة الثقافة العربية ذاتها بوصفها ثقافة تبجّل الستر، وتميل إلى طي الصفحات الماضية أو السوداء، وتؤثر السلامة، وهي رجع صدى لإرث عريق في المدائح والمفاخرات، تجانب الإفصاح عن الأخطاء، وتتحاشى الكشف عن مرات السقوط في حركة الحياة، فجاءت غالبية السِّيَر- ذاتية وغيرية - نقية، زاهية، على غير الحقيقة. ويعرّف النجدي «أدب الاعتراف» بأنه «شكل سردي يتركز اهتمام الكاتب فيه على إظهار الجوانب الخفية من حياته، وكشْف المستور من صفاته الشخصية، وتجلية الغامض من علاقته بالآخرين، مستنداً في ذلك إلى الحقيقة وحدها، وساعياً إلى التحليل والتنبيه إلى مَواطن الخلل في الفرد والمجتمع، لكنّه قد يمثّل صدمة للقارئ تُبَدِّل الصورة الذهنية المستقرة في نفسه، كما أنه يمثّل مُخاطَرة وجُرأة في مواجهة الأعراف والتقاليد».

اللافت أن الأدب العربي عرف قديماً نماذج مبكرة من أدب الاعتراف كما في كتاب «الصداقة والصديق» الذي يحمل اعترافات لأبي حَيَّان التوحيدي حول قسوة الحال وشَظَفِ العيش حين كان مقصيّاً عن السلطة والسلطان، مطروداً من قصور الحكّام ونعيمها، مما دفعه إلى حرق كتبه في أواخر حياته، ضنّاً بها على الناس. وكذلك اعتراف الشيخ الرئيس ابن سينا بأنه كان يتخّذ الخمر وسيلةً تعينه على تحصيل العلم، وهو اعتراف صادم يتناقض مع حرصه على أداء الصلاة في المسجد. وهناك كذلك اعترافات أبي حامد الغزالي في «المنقذ من الضلال» التي يعرّض فيها لرحلته مع الفلسفات والعقائد والمِلل والنِّحل، ثم يبين اهتداءه إلى شاطئ التصوف بعد شيء من القلق والحيرة والشك والاضطراب والصراع الفكري. وهناك أيضاً نموذج ابن حزم في «طوق الحمامة في الألفة والألّاف» الذي يتضمن صوراً اعترافية متفرّدة جَسورة تخطّت حواجز الصمت والكتمان التي تغلّف حياة العلماء والفقهاء على نحو جعل هذا الكتاب العربي التراثي رائداً في هذا المجال.

صدمة البوح

تتعدد نماذج أدب الاعترافات عربياً في العصر الحديث، كما في «أصابعنا التي تحترق» لسهيل إدريس (1925 - 2008)، و«أوراق حياتي» لنوال السعداوي (1931- 2021)، و«أيام معه» لكوليت خوري المولودة في 1931، و«رسائل غادة السمان وغسان كنفاني» لغادة السمان المولودة في 1942. ويظل من أهم وأشهر تلك النماذج مذكرات «أوراق العمر: سنوات التكوين» للناقد المصري الدكتور لويس عوض (1915 - 1990)، ورواية «الخبز الحافي» للمغربي محمد شكري (1935 - 2003). وترجع شهرة هذين العملين تحديداً إلى براعة الوصف وجمال اللغة، فضلاً عن كم الصراحة والبوح فيهما على نحو صادم، وكذلك ردود الفعل الغاضبة من جانب عائلتَي كل من عوض وشكري، التي وصلت إلى حد محاولة منع الكتابين من التداول والتبرؤ مما جاء فيهما.

وفي بحث شائق يحمل عنوان «أدب الاعتراف والبوح في مذكرات الجواهري»، يرصد الباحث، الدكتور سليمان سالم السناني بعض التجليات الاعترافية الواردة في مذكرات الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري (1899 - 1997)، التي حملت عنوان «مذكراتي»، حيث تنقسم تلك الاعترافات إلى ما هو «اجتماعي» مثل حديث الجواهري عن ارتكابه السرقة والاعتداء البدني على الآخرين، وهو في طور الطفولة والمراهقة ومنها ما هو «أخلاقي» مثل عشق ومطاردة فتاة أكبر منه سناً.

وفي «ليالي إيزيس كوبيا: ثلاثمئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية»، يرصد الكاتب الجزائري واسيني الأعرج رسائل الكاتبة اللبنانية مي زيادة الخاصة، ومذكراتها وأوراقها المجهولة، وفيها تتجلى أسرار علاقاتها بكثير من مبدعي جيلها ومفكّريه مثل جبران خليل جبران، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، وخليل مطران، وأحمد شوقي. وتعود هذه الأوراق النادرة إلى مخطوطة لمي زيادة بعنوان «ليالي العصفورية: تفاصيل مأساتي من ربيع 1936 إلى خريف 1941»، وقد كتبتها زيادة في أثناء إقامتها في مصحة «العصفورية» للأمراض النفسية والعقلية في بيروت قبيل رحيلها في عام 1941 بفترة وجيزة.

ويذكر الناقد والأكاديمي، الدكتور محمد أبو السعود الخياري أن الثقافة العربية محافظة بطبيعتها إلى حد أنها تبدو سدّاً عالياً يتراءى في الأفق لكل من يهم بكتابة أدب الاعتراف، فما يمكن قوله أقل بكثير مما يمكن نشره. ولعل «أدب الاعتراف»، بما يحمله من حكي متجرد لآثام المثقف ومعاناته ونقائصه، يمثل مخاطرة للأديب وسط تلك الدوائر الرقابية التي تبدأ من منزله ولا تنتهي بقارئ مجهول. ويضرب أبو السعود المثل بما حدث عندما عمد أبناء الناقد المصري، الدكتور شكري عياد (1921 - 1999) لسحب نسخ كتابه الاعترافي «العيش على الحافة»، مبررين ذلك بأن فيه ما يعرضهم للحرج.

حساسية خاصة

 

وتوضح الدكتورة ناهد راحيل، ناقدة وأكاديمية، أن «الأدب الاعتراف» يكتسب حساسيته كونه يندرج من مفهوم كتابة الذات التي انطلقت بدورها مع صياغة مصطلح «السيرة الذاتية» الذي نشأ في العلوم الإنسانية وتبلور في نظريات معرفية. وتتخذ كتابات الذات من الاعتراف استراتيجية أساسية لبنائها كونها جاءت لتفكك السرديات الكبرى للمجتمعات. ومثال ذلك عدد غير قليل من السّير الذاتية النسوية التي جاءت لتقاوم منظومة الهيمنة الذكورية، وسلطت الضوء على دور النساء في تاريخ الكتابة الذاتية، مثل كتابات نوال السعداوي وفتحية العسال.

 

بينما ترى الكاتبة الروائية منى الشيمي، أن المثقف العربي جزء من المجتمع، يحمل صفاته مهما كان متمرداً ومتحرراً، عميق الثقافة، لهذا قام كثير من الكتاب ببعثرة اعترافاتهم على مجموع رواياتهم. الروايات لأبطال متخيلين، أبطال من حبر، لهم الحق فيما يفعلون، وللقراء الحق في إدانتهم وصلبهم وإحراق أجسامهم. وهكذا يظل الكاتب في مأمن.

 

تقول الشيمي: «حتى إشعار آخر تظل ثقافتنا العربية، والكاتب المدجّن، الذي يتكون نسيجه من نسيج مجتمعه نفسه، حائلين لوجود أدب الاعتراف الحقيقي، ولنتخيل جميعاً حجم ردود الفعل في ثقافتنا العربية المحافظة لو خرج رجل وكتب أنه خان صديقه، واجتمع بزوجته، أو سرق ما في عهدته، أو أن تخرج امرأة وتعلن أنها أقامت علاقة خارج مؤسسة الزواج».

 

وتشير الكاتبة الروائية رباب كساب إلى أن «المثقف العربي يخشى البوح الصريح المطلق؛ لأنه لا أحد يحب أن يكون محط أنظار الجميع. قد يبوح الكاتب ببعض من ذاته في أعماله، مفضلاً ألا يكون مادة للمكتوب، أو أن تكون حياته وخصوصيته على المشاع، قد تتسرب روحه إلى أعماله وهذا ما أعده الأفضل لكن لا ينبغي أن يكون هو العمل. على المستوى الإبداعي لا أدخل تلك المنطقة أبداً، أنا أخلق نصوصي من وحي شخصياتي لكني لا أكتبني، أحب أن أحتفظ بي لنفسي وللمقربين مني، أحب أن أشارك الناس خيالي، لا واقعي».

ذهنية التحريم

ويرى الناقد والكاتب محمود عبد الشكور أن ذهنية العيب والمحاذير والتفتيش في النوايا إلى حد إقامة دعاوى الحسبة والتفريق بين الكاتب وزوجته، باتت تطغى على الثقافة العربية بوصفها جزءاً من تراجع المجال العام للحريات، مشيراً إلى أن كتابيه «كنت صبياً في السبعينيات» والجزء الثاني وعنوانه «كنت شاباً في الثمانينيات» لا يندرجان ضمن أدب السيرة الذاتية الخالصة بقدر ما هما سيرة ثقافية واجتماعية وسياسية بالأساس. ويضيف: «لم أكتب من سيرتي إلا ما يخدم هذا الهدف، وبالتالي لم يكن هناك مجال لاعترافات أو تفصيلات خارج هذا المعنى».

ولا يصنف الكاتب الصحافي بشري محمد كتابه «أنا يوسف إدريس» الذي يرصد فيه محطات من سيرة ومسيرة الأديب يوسف إدريس (1927 - 1991)، ضمن «أدب الاعتراف» بمعناه التقليدي، إلا أنه يشير إلى تعرض الكتاب لبعض النقاط الشائكة، التي تتماس مع نبرة الاعتراف في حياة إدريس المعروف بزهوه الشديد مثل كرهه الشديد لجدته «آسيا» في مرحلة الطفولة، وانتمائه السياسي، حيث كان توجهه الاشتراكي نوعاً من الانتقام من والديه أكثر من كونه انحيازاً فكرياً محضاً، وكذلك ملابسات وحدود علاقته بالفنانة نجاة التي أورد فيها ثلاث روايات وترك القارئ ليرجح الرواية الأكثر صدقاً.

أخترنا لك
جدل بعد عدم اعتراف الأولمبية الدولية بنتائج انتخابات الأولمبية العراقية

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة