بقلم::نجوى معروف
من زار شرق آسيا وجنوبها، لا بُدّ أن تُستثارَ لديه حاسّة الشم،
فرائحة التوابل والعود والبَخُور تملأ الأجواء والأماكن، وحقيبة
العودة لن تخلو منهما، فنحن نُهدي مِمّا نُحِبّ.
وهل هناك أفضل من العود والبخور، وأثرهما الطيّب في القلوب والبيوت،
إنّهما تيجان المباخر، ومُهدّئات الأعصاب، عَبَقٌ شرقيُ السحر والهوى،
قادِمٌ على هودجٍ محفوف بفخامة الغابات، وما تحتوي من أسرارٍ مُدهشةٍ،
ينساب دَخن العودِ كالحرير حول أعناقنا المُتعبة، فترتخي استسلامًا
لجاذبيته الطاغية.
وبعد كل هذا الغزل بالعبق الساري في أجواء المجالس، لا بُدّ من
الغَوْرِ في أصلهِ وأسرارهِ.
والمُفاجأة أن «العود» صمغ غامق، ويتكون كردّ فعل على تعفُّن خشب
الشجر من الداخل، لكثرة الأمطار والرطوبة، ويُطْلِقُ زيوتًا عطرية ذات
رائحة استثنائية، وله قيمةٌ عاليةٌ لدى عددٍ من الثقافات والحضارات،
وتنمو أشجاره بكثرة في الغابات كثيرة الأمطارِ في جنوب شرق آسيا مثل
إندونيسيا وماليزيا وتايلاند، ويعتبر من النباتات المُعَمّرةِ ودائمة
الاخضرار.
فسبحان الذي سخّرَ لنا هذا وما كُنّا لهُ مُقرنين وسبحان الذي علّم
الإنسان ما لمْ يعلم، ليتمتّع بخيرات الدنيا.
أمّا البَخُور، فهو مادة تُطلق دخانًا ذا رائحة عطرية عند احتراقها،
ويُستخرج البخور من زيوت النباتات العطرية، ثم يُخلط مع مسحوق أعوادٍ
جافّة زكيّة الرائحة، ومن أنواعه السائدة: المبثوث، والمعجون
والمعمول، كلّها خلطات بنِسَبٍ مُتفاوتةٍ، لذا فهي أقل جودة من العود
الطبيعي الخام والخالي من الإضافات.
وتختلف استخدامات البخور باختلاف البيئة الثقافية، قد يُمزَج مع
الزيوت التجميلية، والعلاجية، وكثيرًا ما يُستخدم في جلسات التأمل،
وكذلك في المعابد.
وبالتأكيد نحن نُدرك تمامًا أنّه لا علاقة لدخن العود والبخور
بالعبادة وطردِ الشياطين، وردِّ العيْنِ، والحسد، كما رُوِيَ في
الأساطير والحضارات القديمة، ثم صَدَرتْ أفلام وروايات تُروّج لتلك
البدعة، بهدف التسويق، إذْ لا حافظ لنا سوى الله، بتلاوة القرآن،
والأذكار والدعاء، والالتزام بالعبادات.
ومثلما يقع البعض ضحيّة البِدَع، يقع البعض ضحيّة التجّار لِجَهلهم
بالفروق والمزايا، والخُبراء فقط يستطيعون التمييز بين العود الأصلي
والمُقَلَّد من خلال عدة طرق منها:
يتميز العود الأصلي برائحته القوية والثابتة، والتي لا تتغير عند
حرقه.
لوْن العود الأصلي أسود طبيعي، ولا يحتوي على نقاط بُنية اللون، أما
التقليد فَبِهِ نقاط بُنيّة.
العود الأصلي يتمتع بكثافة عالية، فهو أقرب للفلزات، يرسب في الماء
ولا يطفو عليه.
ومذاق العود الأصلي شديد المرارة، وإن كان غير صالحٍ للأكل، بينما
التقليد أقل مرارة.
تعددت المُسميّات نسبةً لبلدِ المنبت، مثل العود الهندي، والكمبودي،
واللاوسي، والبورمي، والماليزي، والجاوي، والسومطري، والكلمنتان.
العود الأصلي أغلى من المُقَلَّد بكثير، يوزَن بالجرام والتولة
كالجواهر والمعادن النفيسة، إلاّ أنّها تبقى مهما استخدمت، بينما
سرعان ما يتبخر العود المُقَلَّد ويفنى.
ولقد قيل من باب الاستعارة والمبالغة:
يخاطبني السفيه بكل قبح
فأكره أن أكون له مُجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حِلمًا
كعودٍ زادهُ الإحراق طيبا
وأقول إن الحلم صفة النبلاء، والأدب علينا مفروض، لكنّ احتراقنا
مُحَرّمٌ ومرفوض، نحنُ بشر لا شجر، ومن كرم الله أنّه حلل لنا الطيّب
وحرّم علينا الخبيث.