بقلم/ د.كلثم جبر الكواري
في عالمِنا العربيِ كما في بلدانٍ ناميةٍ كثيرةٍ، تزدحمُ رفوفُ مكتبات الجامعات بالعديد من المجلدات التي تشتملُ على مُختلِف الدراساتِ، التي لا يستفادُ منها على المُستوى التنموي، لاعتمادِها على مواضيعَ لا صلة لها بالواقع المعاش في مجتمعاتها، ما يشكل عبئًا كبيرًا على ميزانيات الدراسات العليا في تلك الجامعات، دون أن تؤدي إلى مخرجات يستفيد منها المجتمع، أو تسهم في الارتقاء بمستوى الموارد البشرية من حيث تحقيق الجودة في مستوى الإنتاج، أو مواكبة التحولات التي تفرضها التنمية في كل مجتمع، وما قد يحتاجُه من رؤية واضحة تتعدى المستوى النظري إلى المستوى العملي، الذي يضيف للحراك التنموي عوامل التطور والاستدامة، وفي الوقت الذي نجد فيه إقبالًا من طلاب الدراسات العليا على اختيار المواضيع السهلة وخاصة تلك التي تعتمد على ما يسمى بإحياء التراث.. نجد في الوقت نفسه شحًا في تلك الدراسات المتعلقة بمشكلات العصر وقضاياه الحيوية والمتجددة، تمهيدًا للوصول بها إلى حلول عملية، ما يشكل دافعًا قويًا للتغلب على معوقات التنمية.
التحوّلات المناخية ومشاكل البيئة ما زالت تشكل هاجسًا ملحًا لجميع دول العالم، ومن أجلها تعقد المؤتمرات والندوات والملتقيات العلمية، ومع ذلك فإنَّ نصيبها من الدراسات الأكاديمية ضئيل عند مقارنتها بتلك الدراسات المتعلقة بالتراث وما يقال عن إحيائه وتنقيته من الشوائب، وهو جهد وإن كان – في رأيي – مهمًا، فإنه لا يرتقي في أهميته إلى المستوى الذي يضعه في صف واحد مع مشكلات العصر التي تعيشها المجتمعات في واقعها المعاصر، وما يستجد منها باستمرار ليهدد حياة الناس وأمن المجتمعات وسلامة الدول واستقرارها.
والرسائل الجامعية إذا لم يستفد منها المجتمع، وتستفيد منها المؤسسات الحكومية والأهلية في وضع استراتيجياتها لمواجهة مشكلات وإشكالات المستقبل، فإن تلك الرسائل لن تضيف جديدًا حتى في مجال تخصصها، بل هي عبء ثقيل على المؤسسة الأكاديمية التي تتبناها من حيث تكاليفها المادية والمعنوية، ومن حيث الانشغال بها عما هو أكثر جدية وفائدة، والنجاح الحقيقي لأي دراسات عليا يتضح بمقدر تأثيرها على الناشئة في المجالَين التربوي والأخلاقي، أو بمقدار مساهمتها في حل مشاكل معوقات التنمية، والأمران هما وجهان لعملة واحدة؛ لأن ارتباط الجانب التربوي والأخلاقي بالجانب التنموي، هو ارتباط عضوي، والأمم تتقدم بنهضتها إذا حافظت على أخلاقها، ومن عوامل انهيار النهضة غياب الأخلاق.
كل الأمم تعتز بماضيها ولكنه الاعتزاز الذي لا يعزلها عن تأسيس قواعد نهضة حاضرها وازدهار مستقبلها، ومثل هذه النهضة وهذا الازدهار لا يتحققان بالاستغراق في نبش أوراق الماضي، وتجاهل مستجدات الحاضر، واحتمالات المستقبل، وبناء الحاضر والمستقبل هما جواز العبور إلى التنمية المستدامة، التي لا بد أن تحظى بالمزيد من الدراسات العلمية الجادة التي تضع في الاعتبار كل التحديات الشرسة المتزايدة على المستويات الأمنية والاقتصادية والسياسية، في ظل ما يشهده العالم من مشاكل التحولات المناخية، والتلوث البيئي، ما ينذر بمخاطر كارثية تهدد مستقبل الحياة على كوكب الأر
على الجهات المسؤولة عن الدراسات العليا في الجامعات أن تحول اتجاه بوصلة الدراسات العليا إلى هذا المجال الحيوي، وأن تهتم به بقدر اهتمامها بالنواحي العلمية والسباق في تسجيل براءة اختراعاتها الجديدة، وأن تسير هذه الدراسات ومعها أبحاث مراكز البحوث العلمية، في الاتجاه الذي يستجيب لمتطلبات التنمية، ويستشرف المستقبل، للوصول إلى حياة آمنة مستقرة، حافلة بالإنجازات العلمية التي لا تعتمد على الوفرة الاقتصادية فقط، ولكن تعتمد على الكفاءات القادرة على تحقيق الاستفادة القصوى من هذه الوفرة الاقتصادية، بما يحقق أمن واستقرار العالم.