بدءً علينا أن نعترف صاغرين , بالفضل اللامحدود الذي بذله
ذلك العملاق الذي يسمى ( الحشد الشعبي )!. وأي فضل يوازي فضله
وهو يهبّ ملبيا ً النداء المقدّس , المتمثل في فتوى الجهاد
الكفائي للمرجعية الدينية العليا . فبالفتوى والإيمان والحشد
استرجعت الأرض , وحفظت الأعراض وانقذت المقدسات , ونهض العراق وشعبه
حيّاً من جديد بطوابير بمئات الآلاف من الشهداء يزفون كل يوم مع كل
نصر مؤزر لهم . وقد راهن الأغيار بأنه شعب مقهور مدحور , واقع بين
مطرقة السياسي الفاسد , وبين سندان الاحتراب المذهبي والطائفي .
وإذا ما أردنا أن نردّ الجميل لهذا الكائن المقدّس , علينا أن نعطي
له منّا كل شيء , كما أعطى لنا هو من نفسه كل شيء , وأمام هذه
المعادلة علينا أن نعترف ثانية بعجزنا صاغرين أمامه . وما قانون (
الحشد الشعبي ) الذي أقرّه البرلمان العراقي يوم 26/ 11 / 2016 م ,
الذي يحفظ حق وحقوق مقاتليه وعناصره على أقل تقدير , إذا ما قورن
بالجذبة الإلهيّة لمهمته الساميّة , واقترانه بالفتوى المقدسة
للجهاد , فهو ردٌ يسير وعرفان زهيد , ولا يساوى معشار قدمه أبدا ً ,
ويقيننا أنه لا يقوى على ردّ جميله اللامحدود إلاّ الله تعالى .
وإذا ما حاولنا وسألنا أنفسنا مَن أسس الحشد الشعبي وسنّ قانونه ؟
علينا أن نتجرّد قليلاً قبل الخوض في الإجابة عن ذلك , ولا ننجر
وراء الزعيق الإعلامي الصاخب الذي صاحب إقراره , وتجاذبته مختلف
القوى السياسية , حتى شوّه المشهد وطمس معالمه , فبات الخائن وطنيّا
ً والفاسد نزيها ً والمجرم شريفا ً , ومن تواطئ وأدخل ( داعش ) بطلا
ً ومحررا ً , فالكل يهلهل ويطبل وكأنهم بعرس وطنيّ لا يراه غيرهم .
ومهما علت المشاعر الوطنية عند السياسيين اليوم , فالجميع لا يعدو
الإطار الذي حددته المرجعية العليا ووضعتهم به حينما قالت : " من
المؤكد أنّه لولا استشراء الفساد .. ولاسيّما المؤسسة الأمنية ،
ولولا سوء استخدام السلطة ممن كان بيدهم الأمر , لما تمكّن تنظيم
داعش الارهابي من السيطرة على قسمٍ كبيرٍ من الأراضي العراقية ،
ولما كانت هناك حاجة الى دعوة المرجعية العليا للعراقيين , الى
الإلتحاق بالقوّات المسلّحة للدفاع عن الأرض والعِرض والمقدّسات ..
إنّ السياسيين الذين حكموا البلاد خلال السنوات الماضية , يتحمّلون
معظم المسؤولية عمّا آلت إليه الامور .."!.
www.sistani.org/arabic/archive/25159/
وعلينا أيضا ً إذا ما أردنا الحقيقة , أن ننشّط الذاكرة قليلا ً,
وننفض عنها ما علق بها من غبار خلط الأوراق والإرادات والغايات التي
تلت أحداث سقوط الموصل عام 2014م , ونعي البدايات جيداً ونعود لأصل
صيغة النداء المرجعي , الذي هبّ الشعب العراقي لتلبيته لقتال داعش ,
ونلحظ التسلسل الزمني التاريخي لبعض الأحداث المهمّة , لتكتمل
الصورة عندنا وعند المنصف على أقل تقدير , ويمسك بخيط المظلوميّة
الواقعة على الفتوى من جهة , والحشد وقانونه المولود يوم 26 / 11 /
2016 م من جهة أخرى .
ــ في يوم 10 /6 / 2014 م , كانت قد سقطت ثلثي أراضي العراق بيد
تنظيمات عصابات داعش الإرهابية . ومن غير أن نعرف الأسباب والمسببات
, كانت الحكومة آنذاك والطبقة السياسيّة قاطبة شبه مشلولة ولا تزال
تعيش آثار الصدمة التي أعيتهم جميعا ً , وظلت تسبح في مستنقع الحيرة
والتخبّط والعجز , ولم يحظى العراق المستباح منها ما يمكن أن ينعش
الأمل عند الفرد العراقي البسيط , بأبسط ردّ للدفاع أو المقاومة ضد
العدو . مع أن بيد رئيس وزرائها آنذاك , وزارتي الدفاع والداخليّة
باعتباره القائد العام للقوات المسلحة, وباقي الأجهزة الأمنية
المسلحة الأخرى .
ــ في يوم 13 / 6 / 2014 م , أي بعد ثلاثة أيام من الاجتياح
وسقوط الموصل , أطلق المرجع الأعلى السيد السيستاني من خلال خطبة
صلاة الجمعة , فتوى الجهاد الكفائي لردّ وردع عصابات داعش المعتدية
, والفتوى انطلقت ولم تكن لتنتظر استشارة أو مشاورة أحد , لا من
حكومة ولا من وزارة ولا من تحالف سياسيّ ولا من حزب أو كتلة ما ,
ولا حتى أخذ رأي أحد ممكن أن يخطر على ذي بال . بعد أن استشعرت
المرجعيّة الخطر الداهم على الأرض والعرض والمقدسات , وراحت تستنهض
همم الشعب العراقي المجروح . فتضمنت الفتوى على مناشدة للقادة
السياسيين , بأن يتركوا الاختلافات والتناحر خلال هذه الفترة
العصيبة , وأن يوحدوا كلمتهم بأسناد القوات المسلحة العراقية ( في
إشارة لامتلاك البعض إن لم يكن الجميع على فصائل مسلحة مرتبطة
بأحزابهم ) ليكون ذلك قوة إضافية لأبناء الجيش العراقي في الصمود
والثبات , موضحة لهم أنهم أمام مسؤولية تاريخية ووطنية وشرعية
كبيرة . وتضمنت كذلك دعوة للمواطنين ممن يتمكنون من حمل السلاح
للإنخراط في القوات الأمنية والجيش تحديدا ً : " على المواطنين
الذين يتمكّنون من حمل السلاح ومقاتلة الإرهابيّين دفاعاً عن بلدهم
وشعبهم ومقدساتهم عليهم التطوّع للانخراط في القوات الأمنية لتحقيق
هذا الغرض المقدس " .
https://alkafeel.net/inspiredfriday/index.php?id=164
ــ في يوم 18 / 6 / 2014 م , أي بعد ثمانية أيام من الاجتياح
الداعشي , وخمسة أيام من انطلاق فتوى الجهاد , كانت الحكومة
العراقيّة قد اهتدت بعد الفواق من الصدمة المذلّة , الى اتخاذ قرار
خجول ينظم ويستوعب المتطوعين الذين هبّوا للقتال , وهذا ما جاء
بالأمر الديواني المرقم ( 47) باستحداث لجنة سميت بـ ( لجنة الحشد
الوطني ) في وزارة الدفاع , مهمتها ( تنظيم حملة الحشد الشعبي )
وشؤون المتطوعين بما فيهم الفصائل المسلحة التابعة للأحزاب والكتل
السياسية العراقيّة , والفصائل المسلحة التي تم استحداثها وتشكيلها
بعد هذا التاريخ , ولم تكن حينئذ هذه اللجنة , مديرية أو
مؤسسة ولا حتى هيئة .
والأمر الغريب هنا , حيث جرى بعد هذا التاريخ , إعلان تشكيل مديرية
أطلق عليها ( مديرية الحشد الشعبي ) وتم ربطها بمستشارية الأمن
الوطني التي انشاها بريمر عام 2004م , قانونيا وماليا ويترأسها
مستشار الأمن الوطني !. ( مع ملاحظة : إن إطلاق تسمية مديرية الحشد
وردت في الإعلام فقط , ولم تكن ليتضمنها قرار أو أمر ديواني حكومي
لعدم دستوريته , لأنه لا يجوز تشكيل مديرية أو هيئة بدون موافقة
وتصويت مجلس النواب عليها ليصبح الأمر قانونياً ) .
والجميع يعلم أن مستشارية الأمن الوطني , بالإضافة الى أنها كانت
تمارس جميع صلاحياتها الوظيفية , من غير غطاء قانوني ينظم عملها من
قبل مجلس النوّاب وعملها مخالف للدستور , أنها ملغاة لإنتهاء فترة
عملها ( 5 سنين منذ تشكيلها عام 2004 م ) وأعلن عن إلغائها ذاك مجلس
الوزراء بتاريخ 29/ 4/2009 م . لذا يلحظ المراقب تحاشي مجلس
الوزراء التطرق الى التسمية المباشرة , خلال خطاباته وقراراته
بصدد تشكيل الحشد الشعبي الوطني كـ ( هيئة أو مديرية باسم الحشد
الشعبي ) !.
ــ بعد يومين فقط من إصدار الأمر الديواني رقم ( 47 ) , أي في
يوم 20/ 6 / 2014 م , ردّت المرجعيّة الدينيّة العليا ومن
خلال خطبة الجمعة , على ذلك الأمر القاضي باستحداث لجنة ( الحشد
الشعبي ) , ونبهت بشكل جلي وثبّتت على أن ذلك إجراء غير دستوري ولا
قانوني , وحذّرت من استغلال الفتوى واستغلال المنصب الحكومي بإضفاء
الشرعية الوهميّة على الفصائل المسلحة الغير رسميّة , وممن يوصفون
بـ ( الخارجين عن القانون ), وأعلنت عن رأيها الصارم به وقالت : "
إنّ دعوة المرجعية الدينية , إنّما كانت للانخراط في القوات الأمنية
الرسمية ، وليس لتشكيل مليشيات مسلّحة , خارج إطار القانون ".
وألمحت إلى أن دعوتها كانت موجّهة , الى جميع طوائف ومكونات الشعب
العراقي وليست لطائفة بعينها , وأن الهدف هو الاستعداد والتهيّؤ
لمواجهة ( داعش ) . في إشارة الى لا قانونيّة الأمر , والى الصبغة
الطائفيّة " الشيعيّة " للجنة المشكلة ). داعيّة السياسيين ومن
بيدهم الأمر ضرورة مراعاة حقوق كافة العراقيين من جميع الطوائف
والمكونات . " وأن تبادر الى تنظيم عملية التطوع كما دعت اليها ,
وتعلن عن ضوابط محدّدة لمن تحتاج اليهم القوات المسلحة والأجهزة
الأمنية الأخرى " .
https://alkafeel.net/inspiredfriday/index.php?id=165
من هذه اللحظة تنزّهت المرجعيّة العليا عن ذلك وافترقت عن غيرها , و
اعتمدت تسميّة المقاتلين الذين لبّوا نداء الفتوى لقتال داعش بـ (
المتطوعين ) خلال خطابها الرسمي والتزمت بها للآن , لئلا يتوهم أحد
من أن المرجعيّة تؤيد , أيّ تنظيم مسلح غير مرخّص به بموجب القانون
، ودعت الجهات ذات العلاقة أن تمنع المظاهر المسلحة غير القانونية .
وبنفس الوقت للتفريق عن من التزموا وأطلقوا تسمية ( الحشد الشعبي )
على المقاتلين , منها الحكومة وباقي الأحزاب والكتل السياسية
المالكة للفصائل المسلحة , وعن الآخرين الذين رضوا بتسمية الفصائل
المسلحة بـ ( بالميليشيات ) . لأن هذه الهيئة التي صيغت بأوامر
حكوميّة ارتجالية مستعجلة , جاءت على غير رغبة المرجعيّة لأنها خارج
إطار القانون ،ولم يمرر من خلال السلطة التشريعية ( مجلس النواب )
على اقل تقدير , وهي على الضد من مبدئها في ضرورة حصر السلاح
بيد الحكومة حصرا ً !. لذلك من الخطأ والتجنّي بمكان , الإعتقاد من
أن فتوى المرجعية هي مَن أجازت تأسيس الحشد الشعبي أو أضفت الشرعيّة
عليه . وإنما أجاز السياسيون ذلك لأنفسهم ( لمصلحة ما ارتأوها ) إثر
فتوى الجهاد .
.
ــ يتبع ..
نجاح بيعي