ـ عراقية الشعائر الحسينية..
ـ نجاح بيعي ـ ح2
لذلك جاء دور الإمام المعصوم (ع) في تسديد الأمّة والموالين عند إقامتهم للشعائر الحسينية وتأكيدهم وتركيزهم على البعد (الجماهيري) في الممارسة, وترشيدهم وتثقيفهم وتشجيعهم وحثهم عليها بما يضمن عدم الإفراط أو التفريط عند مُمارستها لئلا تخرج الشعائر الحسينية من أطارها الحسيني الإصلاحي وهدفها الإلهي, وتوجيهها نحو الوجهة الأتم والأكمل كما رسم معالمها أئمّة أهل البيت عليهم السلام. ومن هنا جاءت ضرورة وجود الإمام المعصوم (ع) في الأمة, ودوره المهم في إقرار بعض الممارسات لتكون من (الشعائر الحسينية) وتسديدهم والدعاء لهم مرة, وحث المؤمنين على ترك بعص الأفعال والتصرفات الغير لائقة أحيانا ً والموجبة الى توهين الشعائر الحسينية مرات أخرى.
ـ وأمثلة ذلك كثيرة منها:
1ـ توجيه الإمام زين العابدين (ع) الأمة لأجل البكاء وذرف الدمة على سيد الشهداء (ع) حيث قال: (أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين دمعةً حتى تسيل على خدّه بوّأه الله بها في الجنّة غرفاً يسكنها أحقاباً، وأيّما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خدّه فينا لأذىً مسّنا من عدونا في الدنيا بوّأه الله بها في الجنّة مُبَوَّأ صدق)(1). وهو (عليه السلام) أوّل من أطلق هذا التوجيه بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) من أجل تنظيم (المآتم) وتحفيزها لدى وجدان الأمة.
2ـ توجيه الإمام الباقر (ع) الأمة وحثها على الإجتماع والإلتئام كلما سنحت الفرصة (زمانا ً ومكانا ً) أي إعطائها الطابع (الجماهيري) في الممارسة, من أجل إحياء أمر أهل البيت (ع). من خلال تذاكر مصيبة الحسين (ع) وما جرى له ولأهل بيته وصحبه بكربلاء, وقد ورد عنه (ع) قوله: (رحم الله عبداً اجتمع مع آخر فتذاكروا في أمرنا فإنّ ثالثهما ملك يستغفر لهما، وما اجتمع اثنان على ذكرنا إلّا باهى الله بهما الملائكة. فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذّكر فإنّ في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياءنا، وخير الناس بعدنا من ذاكر بأمرنا ودعا إلى ذكرنا)(2).
3ـ ومنها حث الأمة ودفعها لأن تُحي أمر أهل البيت عليهم السلام بالوسائل المتنوعة ولعل (المنبر) كان أبرع وسيلة في نشر علوم آل البيت عليهم السلام. فقد ورد عن (عبد السلام بن صالح الهروي) أنه قال: (سمعت الإمام أبا الحسن علي بن موسى الرضا يقول:)أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا(
قلت: يا بن رسول الله وكيف يحيى أمركم؟
قال (ع): أن يتعلم علومنا ويعلمها الناس؛ فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لتبعونا)(3).
4ـ إقرار الإمام الصادق (ع) لأفعال أحد أصحابه وهو(مسمع بن عبد الملك كردين البصري) وتشجيعه عليها, حينما استنطقه قائلا ً: (أما تذكر ما صُنع به؟(ويقصد الإمام الحسين ـ ع).
ـ قال: نعم.
ـ قال (ع): فتجزع؟.
ـ قال مسمع: إي والله واستعْبِر لذلك، حتّى يرى أهلي أثرَ ذلك عليّ، فأمتنع عن الطعام، حتى يستبين ذلك في وجهي.
ـ فقال(ع): رحم الله دمعتك. أما إنك من الذين يُعدّون من أهل الجزع لنا، والذين يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا، ويأمنون إذا أمِنّا)(4).
5ـ منها تسديد المعصوم (ع) وتصويب بكاء شيعته (ع) ورسم الهدف السامي للبكاء, كون البكاء يُمثل أسّ الشعائر الحسينية. فقد ورد عن الإمام الرضا (ع) أنه قال: (يا بن شبيب: إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب (ع) فإنه ذُبح كما يُذبح الكبش..)(5). فليس من المعقول للمرء وللمسلم وحتى للموالي أن يبكي على (شيء) ما في هذه الدنيا, و(الوجود) برمته قد بكى وحزن على الإمام الحسين (ع). فالإمام الحسين (ع) بكته السموات والأرض وَما يُرى وما لا يُرى كما قال الإمام الصادق (ع):(وبكى لهُ جميع الخلائق وبَكتْ لهُ السَماوات السَبعُ والارَضُون السَبعُ وما فيهِنَ وما بَينَهُنَ ومَن يتقلَّبُ في الجَنَة والنّارِ مِن خَلقِ ربِّنا وما يُرى وما لا يُرى) (6). فجاء التوجيه بأن يكون هناك هدف للبكاء وأن الإمام الحسين (ع) هو من يستحق البكاء (من باب أولى) لنيل رضا الله تعالى.
6ـ ومنها الحث على لعن قتلة الإمام الحسين (ع) في كل آن وعلى كل هيأة وحال, حتى يجري اللعن على اللسان كذكر دائم لا يفتر أو يتوقف. فقد ورد عن الإمام الرضا (ع): (يا بن شبيب، إن سرّك أن تسكن الغرف المبنيّة في الجنّة مع النبيّ وآله صلوات الله عليهم، فالعن قتلة الحسين)(7).
7ـ منها حث الإمام الصادق (ع) لـ(ذريح المحاربي) على الصبر والمصابرة من سخرية المستهزئين به على زيارة سيد الشهداء, تلك الزيارة التي تُعد عمود جميع الشعائر الحسينية المقدسة. قال: (ذريح المحاربي للإمام (ع): إني إذا ذكرت فضل زيارة أبي عبد الله (ع) هزأ بي ولدي وأقاربي.
ـ فقال له (ع): يا ذريح, دع الناس يذهبون حيث شاؤوا وكن معنا)(8).
8ـ منها ما أبداه الإمام الصادق (ع) من إمتعاض لأفعال البعض من (الأمّة)عند زيارتهم سيد الشهداء (ع): (بلغني أن قوما ً إذا زاروا الحسين بن علي حملوا معهم السفر، فيها الحلاوة والأخبصة وأشباهها، لو زاروا قبور أحبائهم ما حملوا ذلك)(9). وتنبيههم بأن زيارة سيد الشهداء (ع) لم ولن تكن نزهة وترفيه قط, إن كانوا يريدون حقا ً زيارة الإمام الحسين (ع).
9ـ ومنها تحذير الإمام الصادق (ع) للبعض منهم أيضا ً وتوجيه كلامه لهم بلا مُحاباة بأن لا تزورون سيد الشهداء (ع) خير لكم من أن تزورونه, وما ذلك إلا لكونهم أتخذوا من زيارته (ع) نزهة وموطن ترفيه وهيهات يكون ذلك حيث قال: (تزورون خير مِن أن لا تزورون, ولا تزورون خير من أن تزورون.
ـ قلت: قطّعت ظهري
ـ قال (ع): تالله أن أحدكم ليذهب إلى قبر أبيه كئيبا ً حزينا ً، وتأتونه أنتم بالسفر، كلا حتى تأتونه شعثا ً غبرا ً)(10).
10ـ ومنها حث الإمام الصادق (ع) لأن تجتهد الأمّة في التعبير عن حزنها وجزعها على سيد الشهداء (ع) ومظاهر الجزع ومصاديقه معين لا ينضب ولا يقف عند حد, وبها الأجر والثواب من الله تعالى لأنهم ممدوح به ومذموم في غيره: (كلّ الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين(ع). وفي رواية: (فإنّه فيه مأجور)(11).
11ـ ومنها رغبة المعصوم (ع) على إنشاد الشعر بحق الإمام الحسين (ع) ورثاءه على الطريقة (العراقية) الحزينة المألوفة. والحث عليها كونها تفي بالمطلب في إثارة عواطف الحزن والجزع وإبراز الأسى ودفع النفس والقلب نحو الرقة والإنكسار. فقد ورد عن (أبي هارون المكفوف) أنه قال: (دخلت على (أبي عبد الله عليه السلام) فقال لي: أنشدني, فأنشدته..
فقال (ع) : لا، كما تنشدون وكما ترثيه عند قبره
حتى بكى الإمام (ع) وتهايج النساء وقال عليه السلام: (يا با هارون من أنشد في الحسين فأبكى عشرة [فله الجنة] ثم جعل ينتقص واحدا ً واحدا ً حتى بلغ الواحد فقال: من أنشد في الحسين فأبكى واحدا ً فله الجنة ثم قال: من ذكره فبكى فله الجنة)(12).
12ـ منها تصويب مولاتنا (فاطمة بنت الحسين) عليها السلام لـ(أبو الرجح الخزاعي) حينما دخل عليها وأنشدها مرثية في حق الإمام الحسين (ع)منها:
أجــالــت عـلـى عـيـنـي سـحائب عبرة فـلـم تـصـح بـعـد الـدمـع حتى ارمعلت
تــبـكـي عـــلـى آل الـنـبـــي مــحـمــد ومـــا أكـثـــرت فـي الـدمع لا بـل أقلت
أولـئـك قــوم لـم يـشـجــوا سيوفهم و قـــد نــكـأت أعــداؤهم حـيـن سلت
وحينما وصل الي البيت التالي:
وإن قـتـيـل الــطـــف مـــن آل هـاشم أذل رقـابــاً مــن قــريــش فــذلـت
ـ قالت فاطمة (ع): يا أبا لرجح هكذا تقول؟.
ـ قال(أبو الرجح الخزاعي): فكيف أقول جعلني الله فداك؟
ـ قالت (ع) : قل: أذل رقاب المسلمين فذلت
فقال(أبو الرجح الخزاعي): لا أنشدها بعد اليوم إلا هكذا...)(13). فالمعركة ليست معركة سلطة ونفوذ بين رؤوس أقطاب بطون قريش, وإنما معركة الحق مع الباطل, معركة الإسلام الأصيل (الإلهي) مع المنافقين وأدعياء الإسلام.
13ـ ومنها رضا المعصوم (ع) عن كل مَن أدى الزيارة وأقام شعائر الله المتمثلة بـ(الشعائر الحسينية المقدسة) ودعاءه (ع) لهم. وأي فخر وعزّ ٍ وكرامة ٍ مِن أن يكون زائر الحسين (ع) والمُقيم لشعائره المقدسة أخا ً للإمام المعصوم (ع)؟!. فقد ورد عن (معاوية بن وهب) أنه قال: (استأذنت على أبي عبد الله (ع) فقيل لي: أدخل. فدخلت، فوجدته في مصلاه في بيته، فجلست حتـّى قضى صلاته، فسمعته وهو يناجي ربّه وهو يقول:
(يا من خصّنا بالكرامة - إلى أن قال: - إغفر لي ولإخواني ولزوّار قبر أبي (عبد الله) الحسين(ع) - إلى أن قال: - وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمةً لنا، وارحم تلك القلوب التي جَزَعت واحترقت لنا، وارحم الصرخة التي كانت لنا...)(14).
وهناك عوامل كثيرة تجعل من الشعائر الحسينية بكافة أنماطها وأشكالها كممارسة جماهيرية, إنبرت لها الأمة تتوارثها عبر الأجيال بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) في اليوم (العاشر) من المحرّم من عام 61هـ, وتجعلها (عراقية) المنشأ والبيئة أولا ً, وترفدها بالعزم والقوة والإبداع بشكل لا يفتر ولا يلين ثانيا ً, وتعطيها الديمومة والتعدد مع مرور الزمان وتنوع المكان ثالثا ً, حتى تجعلها تجري في الأمّة مجرى الدم في شرايينها وتبقى فيها ما بقيا الليل والنهار.
ـ ومن تلك العوامل:
.
ـ يتبع: ح3 والأخيرة
ـــــــــــــــ
ـ الهوامش:
ـ(1) وسائل الشيعة ج10ص393
ـ(2) الأمالي للطوسي ص228 ح1
ـ(3) عيون أخبار الرضا (ع) للصدوق ج ٢ ص٢٧٥
ـ(4) كامل الزيارات ص 203 - 206 ح 7
ـ(5) عيون أخبار الرضا (ع) للصدوق ج ٢ ص٢٦٨
ـ(6) الكافي للكليني ج ٤ ص٥٧٦
ـ(7) الأمالي للصدوق ص 193
ـ(8) كامل الزيارات ص272، ح5
ـ(9) الوسائل 14: 541
ـ(10) المصدر السابق
ـ(11) كامل الزيارات ص 201 ح 2/ الأمالي للطوسي 162ح20
ـ(12) بحار الأنوار للمجلسي ج ٤٤ ص 287
ـ(13) بحار الأنوار للمجلسي ج ٤٥ ص ٢٩٤
ـ(14) الكافي 4: 582