الـطـّوُفـَان .. قـصّـة قَـصِـيـرة
2016/02/28
الـطـّوُفـَان ..
قـصّـة قَـصِـيـرة
( .. على الأرض .. لم يكن هناك غيره ، وإذا بتمثال عظيم وقف
قبالته , منظره هائل رأس هذا التمثال من ذهب جيد , صدره و
ذراعاه من فضة , بطنه و فخذاه من نحاس , ساقاه من حديد ,
قدماه بعضهما من حديد و البعض من خزف . أقتطع حجر بغير يدين
فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد و خزف فسحقهما ,
فانسحق حينئذ الحديد و الخزف و النحاس و الفضة و الذهب معا ،
وصارت كعصافة البيدر في الصيف , أما الحجر الذي ضرب التمثال ،
فصار جبلا كبيرا و ملا الأرض كلها . ) سفر دانيال / الإصحاح
الثاني .
بعد أن رَغى كبعير هائج ، أستيقظ من كابوسه ، في حين يغطّ
عالمه بسبات يقظ بليل خريفي بارد . عند الصباح تذكر الحلم ،
وهو في طريقه لتدشين هيكل مجده المزعوم . فبالرغم من إحساسه
بوضوح الشّبه ، بين الحلم والواقع ، لكن بدا له الحلم خاليا
من أي نذير . بل أضغاث أحلام . لذا تناساه ولم يعره أهمية ،
فقط استذكر كيف استيقظ محموما يلوك الهواء والزّبد ، سابحا
بالعرق ، وقد تدلت شفته السفلى وصدره منفوخا ثقيلا ، عالجه
بالنوم ثانية بانكفائه على بطنه .
اجتاز الرواق الفخم ، عبر ممرات عديدة ذات حراسة غير
مرئية . ونزل السلم الحلزوني إلى ما تحت الأرض الخفيّة ،
وساقته قدماه بخطوات ثابتة لدهاليز سرية عدة ، وقف أمام
باب كبير موصد . وكمن يؤدي طقسا ما ، تمتم بكلمات مبهمة ,
فانفتح الباب على مصراعيه. كان الهيكل أمامه رابضا في
الوسط . وسط قاعة دائرية فخمة ، تحيطها من الداخل مرايا
كبيرة . وهو يسير شيّع شبحه الساقط على سطح أولى المرايا
، بابتسامة اعتداد لم يألفها من قبل .
استدرك ووقف !.
خطى للوراء بضع خطوات وأمامها وقف , مزهوا اخذ يمسّد
ببصره الحاد رتب المهابة المغتصبة على كتفيه ، وألوان
نياشين الشجاعة المستعارة على صدره ، نزولا مع الحرير
الأحمر لشريط الاستحقاق الذي ينتهي بوسام البطولة
الوهمية الذهبي ، حيث قبضة يده اليمنى الموشومة ،
المتأهبة للاشيء ، لأي شيء ، وهي تحضن سيف إرهابه
المتدلي جنب رجليه الكسيحتين .
استهواه النظر لهيئة الآخر القابعُ بالمرآة .
بإمعان أعاد الكرّة .. كأنه يستقريء بأميّته أسرار
الوثن الكاكيّ الذي أمامه ، حتى ألتقت العينان ,
وتشابكت النظرات . تسمّرت ببعضها . دون أن يرمش
لهما جفن . لم يمضِ زمن طويل ، حتى اكتشف انه لم
يكن يملك عينين , كعيون سائر البشر . بل كوّتين
تطلان على هوّة بلا قرار . هوّة سحيقة غارقة
بالظلمة . لم يأبه . ركز بإصرار واقترب أكثر من
عينيّ الآخر . اجتاز الغلالة , ونفذ من خلالهما ,
واطلع على الفضاء المظلم ...
بذرّوة التّحديق ، سَرت بداخله ولأول مرّة ,
رَعدة كانت له كالصّدمة .. اهتزّت لها كل أعضائه
. كان قد رَاعه وَهج خاطف ، لمحه يومض حبيسا ً في
عتمة الظلمات . لم يعرف كنّه ذلك الوميض . ولم
يكن يألف العصيان بالمرّة . تمالك نفسه . ملأ
رئتيه بنفس عميق , وزفره كوحش متوحد . استجمع
قواه وشحذ ذهنه ، وكمجذوب وحيدا ً قرّر بعزم , أن
يعرف سرّ ذلك الوهج المّارق في العتمة . أغمض
عينيه . ظلمة تتكاثف . وخلاء ممتد أكثر قتامة .
بينما هو بغمّرة الظلماء طنّ سمعه على حين غرّة ،
صوت ريح عظيمة تولول ، مدفوعة عبر وحشة المدى
اللانهائي , وصُخب زلزلة عنيفة هزّت الأرجاء
.
للحظة مباغتة , أضاء روحه وهج نارٍ غامض .
الوهج السرّ ، مصحوبا بهمس خفيف سمعه ووعاه
بقرارة نفسه , وهو يقول له " بني إذا ما احتجت
لي ذات يوم وناديتني ، فما عليك الا أن تنصت
إلى أعماقك وستجدني !؟ " .
أناخ للهمس الناريّ . عرف الصّوت ، كان قد
سمِعه من قبل . وهو يتلفظ أولى الوصايا , قبل
أن يرحل ويغيب في الزمان . بل ووَعى جيدا
كلمة ( بُـنيّ ) . تلك الكلمة البِكر التي
طرقت سَمعه ، فأيقظت به حنينا قديما ً نحوه ،
فانتشى فجأة بلذة البِنوّة . طأطأ لهُ رأسه
مذعنا ً. فتبدّى له شبح رجلٍ آت من أغوار
الماضي ، على بساطٍ من نار . مُسفرا عن وجهٍ
شاحبٍ بعينين متقدتين ، وقد تدّلت من على
صدغيه ضفيرتان . واضعا ً على رأسه طاقية
سوداء ، بدت كجناحي غراب . كان قد رأى أباه .
رأى عرابه .
فهو لم يكن ينصُت إلى أعماقه فحسب ، وإنما
كان يغورُ فيها ، وأن رَوعه لم يكن خوفاً ,
وإنما هيبة . في هذه اللحظة الومضة . كان
قد مرّ زمن كالأزل . زمن أبعد ممّا هو كائن
، بل تعدى إلى ما كان . فشعر فجأة أنه أطول
عمرا مما كان يتصور ، وأنه عاش أزمانا أخرى
سابقة لزمنه ، وغائرة بالماضي السحيق قرونا
ً عديدة . فرأى ميلاده في كل مرة قبل أن
يموت ، وهو يسقط من ظلمة العدم , فيلتقطه
من الخرائب المهجورة عرّابه ، عرّاب
السّريرة السّوداء ، ليرضعه عشق الدّم
المُراق المسفوح , من ثدي الخيّلاء
والضغينة , ويرسم مصيره المحتوم كرجل أوحد
. ويقلده عنان الزمن نيرا ً على رقاب البشر
كقطيع .
سَبر الماضي . طاف بالمدائن القديمة .
والممالك البائدة . طار فوق الحصون
والقلاع . سمِع قرع طبول الحرب هنا .
وصهيل الخيول المغيرة هناك . سمع صليل
السيوف ونواح اليتامى والثكالى , عويل
السبايا من المدن المستباحة . رأى شطآن
الدماء المراقة عند الحواضر البكر, ورأى
مفازات المجازر وأكوام الجماجم عند
المغاور والحفر , حتى لاحَت لعينيه
البدايات . بدايات الحقب الأولى , حتى
انكشف له الزّمن الأول . الدّم الأول .
أول اقتداحٍ لظلمة دائمة على الأرض ,
تتوالد إلى اليوم , وستستمرّ للأبد .
إقتدحها الذي مَرق وَقتل . رأى قابيل .
أخذ يفيقُ من حمّى ذلك السِفر . رويدا
رويدا عادت له الحياة . فتح عينيه وهو
يأخذ نفسا ً عميقا , وكأنّه يدفع به
دفق الماضي عنّوة للوراء , ويرشف
الحاضر بكليّته , بحسّوة واحدة . أمّ
الهيكل . أجتاز بصمت دهليز الشموع
الباسقة ، فتراقصت ظلال ألسنة النّار
على وجهه المكفهر , فبدا وكأنه تمثال
متوحّد بباب معبدٍ قديم . مَرق من بين
العمودين الكبيرين اللذان من رخام ،
وقد انتصَبا في الفراغ . ووقف أمام
قاعدة ضخمة ، على هيئة نجمة مثمنة
الأضلاع من طبقتين . الأولى من حديد
وخزف والثانية من حديد . وقد انبثق
منها هرم هائل بطبقاته الثلاث . رأسه
من ذهب وصدره من فضة ، وأسفله من نحاس
. تطلع بشغف إلى القمّة ، وقد طاولت
سقفا على هيئة قبة عملاقة ، لسماء
مزيفة تبدو بلا نهاية . أجال النظر فيه
. تملاّه جيدا . أحس بنشوة تمور بداخله
وتعتلج ، حتى عصفت برأسه ، فجعلته يبدو
كالسائر إلى حتفه بلا شفقة . أعتلى
القاعدة. وبهمّة غامضة تسلق الهرم ,
ووقف هناك على القمة . رفع رأسه فرأى
سماء مفتوحة وأفلاكا تدور , وشموسا
وكواكب . انتضى سيفه . شهره عاليا وهو
يهتف بسره " أنا هو من يملك الأنوار
والظلَم !!؟؟" .
حينها شعر بخفّة مباغتة . أجتاح خدرٌ
أحاسيسه فجأة فتبلدت . شُلّت أطرافه
. إنفصلت . انفصل هو عن جسده . خيّل
إليه انه يطفو . يعوم . مغالبا
الحدود النهائية للزمن . طافحا بإرث
رأسه الحاسر عن أجيال من الهذيانات
والطغيان . فقد الإحساس بالزمن . طار
فوقه . طار بالتخوم الأبدية للظلمات
.. وغاب .
لكنه لم يدرك , ولم يَعِ ولوّ
للحظة , لطوُفان النّمل , وهي تقضم
جاهدة قدميه , وأسراب العُقبان وهي
تحومُ حول رأسه , بعد أن شمّت
رائحة جيفة .