ـ فحوى مسرحية الأرامل:
لعل فحوى مسرحية "الأرامل" للكاتب الأرجنتيني (آرييل دورفمان) والتي
رَام َ "سامي عبد الحميد" إخراجها مسرحيا ً ضمن مشروع بغداد عاصمة
للثقافة العربية , لا تعدو الإطار النمطي لأدب المُمانعة
والرفض للأنظمة الإستبدادية ـ حاكم مستبد وضحية ومن ثمّ صوت حرّ
رافض , والذي ساد في فترة انتشار حركات التحرر العالمي في القرن
الماضي . ومسرحية (دورفمان) تمثلت في ( إمرأة عجوز فقدت إثنين من
أبنائها ووالدها وزوجها , فتتقدم نسوة فيعثرن على جثة تطفو في نهر ,
كل واحدة منهن تعتقد أن الجثة تعود لأحد أقربائها . بينما الحاكم
العسكري للبلدة يحاول إبعاد النسوة عن النهر لمعرفته بالحادث
, لكن إصرار النسوة والمرأة العجوز لمعرفة مصير ذويهن , يبقيهن
منتظرات جثثاً أخرى).
ـ عمل لن يرى النور :
يبدو أن خريف عمر "سامي عبد الحميد" الذي ولج (التسعين عاما ً) لم
يقوى على تسجيل عطاء مسرحي جديد كمُنجز له يُذكّر المسرح العراقي
ورواده بأنه لا يزال ينعم بالعافية . فبسبب العوز المالي ونكوص
(وزارة الثقافة العراقية) في عدم التمويل بحجة عدم كفاية (الغطاء
المالي) للإنتاج , هو الذي حال بينه وبين إخراج هذا العمل ـ وخاب
أمله ثانية .
ففي تصريح له (أي ـ سامي عبد الحميد) منشور على جريدة " الصباح
الجديد " في يوم 3 مايو 2018م يقول : (أرجو أن لا يخيب أملي في
تحقيق أمنيتي في تقديم مسرحية (أرامل) التي وعدت مترجمها (علي كامل)
بأن أنجز إنتاجها . وأن لا يحدث لي كما حدث في عام 2013، عندما كانت
المسرحية مدرجة ضمن فقرات بغداد عاصمة الثقافة العربية ، وفي اللحظة
الأخيرة قيل لي أن الغطاء المالي قد انتهى، فتوقفت عن العمل)
(1).
ولا أظن أن مسرحية (الأرامل) للكاتب الأرجنتيني (آرييل
دورفمان) التي عزم "سامي عبد الحميد" إخراجها بمساعدة المخرج د .
(كريم خنجر) كونها تُحاكي جريمة (سبايكر) المؤلمة, والتي قام
بترجمتها عن الإنكليزية (علي كامل) سوف ترى النور في المدى القريب .
ليس فقط أن موعد (بغداد عاصمة للثقافة العربية) قد فات وأصبح من
الماضي , أو لإستمرار ذات الأسباب المتعلقة بالمال , وإنما جريمة
(سبايكر) تأبى التمويه والتشويه والرقص على جراحها.
ـ وبودي هنا أن أطرح عدة إسئلة :
ـ منها الى جميع القائمين على المسرح العراقي فأقول :
أما آن الأوان للمسرح العراقي المخطوف أن يُطلق سراحه , ويعي مهمته
ورسالته من خلال منظّريه وأقلام كتابه ونُقاده وحتى رواده
التقليديين . أما آن الأوان لأن يُعيد قراءة الواقع المغموس حدّ
النخاع بالفوضى الدمويّة الموجعة , وينتج عملا ً ينبثق من رحم
المأساة العراقية , وينتشل جمهوره المُستلب (والمُغترب) من قيعان
عذاباته ؟. وهل حقا ً يحتاج العراقي (المواطن) المفجوع لأن
يتذكر عذاباته ومن تسبب بها , الى عمل ٍ مسرحيّ يحكي فاجعة أمّة
أخرى من الأمم ؟. وهل ( أرامل ــ دورفمان ــ أو أرامل ــ سامي عبد
الحميد ) تشكل حقا ً ـ تناص ـ لجريمة "سبايكر" ؟. ألم يكن ـ التناص
ـ في التنظير الأدبي هو (التعالق النصّي) أو (التشابه بين نص وآخر)
؟. فما الذي جعله أن يكون تشابه ٌ بين ـ نصّ ـ وبين حادثة واقعيّة
؟. هل هو تنظير جديد؟. وهل لجريمة "سبايكر" التي لم تزل ضحيتها
مفقودة وجلادها حرّ طليق والقصاص العادل مُغيّب ولم ينزل بالمجرمين
بعد , شبه ٌ لها في شرق الأرض وغربها ؟!.
وبالتالي ..
هل جفّت أقلامنا وعَـقـُمَـت ثقافتنا (المسرحيّة) العراقيّة أو
العربية , عن نصّ يعكس فواجع العراق وشعبه الحقيقية فضلا ً عن
الشعوب العربية , التي أغلب أنظمتها السياسية أنظمة رجعية وشمولية
مُصادِرة للحريات والفكر . وإذا كانت مأساة ـ دورفمان ـ جرت أحداثها
في (الأرجنتين) البلد الذي يحكمه الطاغية " بينوشيه " بنظام "
توتاليتاري " (كما يُحب أن يسميها لوقع لفظها اليساري) , فإن على
الجميع أن يدرك من أن عراق ما بعد (البعث وصدام) يختلف إختلافا ً
جذريا ً عنه . إذا ما تمت المقاربة والـ(تناص) مع أجواء وحيثيات
جريمة (سبايكر) الحقيقية عند ـ أرامل سامي عبد الحميد ـ المسرحية
الإفتراضية . لاختلاف الدوافع في لكلا المجتمعين الناتج عن اختلاف
النظام السياسي في كلا البلدين .
ـ ومنها لـ(سامي عبد الحميد) واقول :
تُرى ما الذي دفعك لأن تُخرج لنا نصّا ً مسرحيا ً مُفترضا ً
(الأرامل) وتُقاربه مع جريمة واقعيّة (سبايكر) وتُقحمه ضمن مشروع
(بغداد عاصمة للثقافة العربية) ؟.
ـ الجواب : لعله يكمن في سببين يقبعان وراء الدافع الحقيقي لذلك
:
ـ الأول : جليّ وواضح يعود الى نظرة(سامي عبد الحميد) الفوقانية
ونزعته العدائية تجاه النصوص المسرحية المحلية (الوطنية), واتهامها
بأنها غير ناضجة وكما صرّح هو بذلك وقال: (هبوط مستوى النصوص
والإخراج وعدم توافر دور يحفر في ذاكرة المشاهد)(2), مما يشكل
الأساس الذي ينطلق منه السبب الثاني .
ـ الثاني : يتجلى بمدى معرفتنا بذلك الجيل المتمرد الذي ينتمي اليه
(سامي عبد الحميد) والذي كان يغلب عليه الحماس اليساري آنذاك ضد
الأنظمة الرجعية والبوليسية . فكان من نتاج ذلك الحماس أن يرفع
شعاراً ثوريا ً (دونكيشوتياً ) كـ(تغيير المجتمع وانتقاد السلطة)
كما حدث أبان تشكيل فرقة (المسرح الفني الحديث) قبل عام 1963م .
وبمدى وعينا كذلك بما جرى بعد عام 1964م من جفاف نبع اليسار المتمرد
وخفوت جذوة الحماس اليساري , وذلك بفضل وقع ضربات وبطش الممارسات
التعسفية للنظام البوليسي المتعاقب على العراق , ونكوص (الشعار
الثوري) ذاك , وتحوله بمرور زمن من(تغيير المجتمع وانتقاد السلطة)
الى ( حَجْرِ الشعب والإنقياد للسلطة )!.
ليصبح بحق شعار الخنوع والتطبيع مع النظام القمعي القائم , خصوصا ً
في فترة حكم (البعث) السوداء والطاغية (صدام) . فشكلت لديه الأرضية
الرصينة للمعادلة المتأرجحة داخل (نفسيّته المزاجيّة)!. فتأرجحه بين
نزعته القويّة لأن يبقى حيّا ً يتمتع بامتيازات الأديب والرائد
المسرحي في ظل نظام بوليسي قمعي , وبين احتفاظه بمبادئه الثورية
(اليسارية) الزائفة , من خلال انتقائه لنصوص مسرحية عالمية تحاكي
نضال الشعوب ضد أنظمتها الديكتاتورية .
ـ يقول سامي عبد الحميد :
(مع استيلاء البعث على السلطة كان أمام الفنان ثلاثة خيارات :
مساومة السلطة أو الصمت أو مغادرة البلاد . لكنّي اخترت البقاء مع
محاولة التوفيق بين عدم الإصطدام بالسلطة وعدم الخضوع التام) !.
أختار (سامي عبد الحميد) البقاء . مع ما للفظة (البقاء) من عموم
بحيث تجمع الخيارات (الثلاثة) المتقدمة مُجتمعة . فهو سَاوم السُلطة
القمعية (سلطة البعث ــ صدام) وصمت عن مبادئه اليسارية (الثورية) ,
وغادر البلاد من خلال التقوقع والإنكفاء بانتقائه النصوص العالمية
دون غيرها , حتى عُدّ من رموز المسرح الرسمي للنظام ، وتقديمه
مسرحيّات تمجّد الطاغية (صدام) وتلمع صورته القميئة . كتحويل رواية
الطاغية (زبيبة والملك) الى عمل مسرحي من إخراجه .
ـ الضمير الساكت :
إنّ استغراق (سامي عبد الحميد) بنقد طغيان الحكام المستبدين في
العالم , من خلال أعماله المسرحية بالتلميح دون التصريح , وبنفس
الوقت يمعن النظر (ساكتا ً) عن جرائم (البعث ـ صدام) الذي عاش أغلب
سنيّ مسيرته الفنية داخل رحم نظامه الجهنمي في العراق , كل ذلك
أوصله لأن يعيش بعد (الأياس) حالة من الرضا النفسي في داخله , دون
أن يشعر بأدنى تأنيب للضمير !. فتصالح (سامي) مع النظام بكبح ذاته
المتمردة بالإذعان على أن يبقيه حيّا ً يتمتع بكل امتيازات الريادة
والصدارة . حتى صار النظام القمعي الدموي للـ(البعث ـ صدام) بالنسبة
اليه هو ذلك المجال الحيوي الذي يمنحه حرية التحرك كما يريد النظام
بأمان , الى الحد الذي صار البيئة التي لا يمكن الإستغناء
عنها . وبهذا لم يكن بمقدور (سامي) المغادرة الى عالم آخر حتى
صار جزءً لا يتجزأ من ذات النظام القمعي .
ـ ذاكرة مثقوبة وحنين لماض ٍ ولى بلا رجعة :
فإذا كانت ذاكرة (سامي عبد الحميد) قد احتفظت بتفاصيل مجزرة
(سبايكر) جيدا ً, والتي وقعت في فترة (نظام سياسي) أقل ما يمكن وصفه
بأنه (نظام ديمقراطي) , لا يمت بصلة أو شبه بذلك النظام الديكتاتوري
الذي قُبر بلا رجعة عام 2003م لا من قريب ولا من بعيد . وكانت
المجزرة الرهيبة سببا ً لأن يُخرج لنا النّص العالمي (الأرامل) يكون
قد فضح حنينه الى ماضٍ ولّى بلا رجعة , ووقوعه بشرك نصبه هو لنفسه ,
وهو يعيش أواخر خريف عمره الفني .
فهو بهذا العمل المسرحي قد :
1ـ أخلّ بعناصر المسرحية . فمجزرة (سبايكر) جريمة لم يكن النظام
السياسي الديمقراطي الحالي سبب في وقوعها . وكان حرّي به أن يجتهد
ويستقصي أسباب هذه الجريمة , والكشف عن هوية القتلة والإشارة اليهم
بصراحة . وهم لا يعدون أيتام (النظام القمعي البائد) بلا أدنى شك .
لا أن يجعلها وكأنها علامة تسجل على النظام الجديد !.
2 ـ ذرّ الرماد بالعيون بعدم الوقوف على أسباب وظروف جريمة (سبايكر)
الأليمة , وصرف الذهن عن الإرهاب المتمثل بـ(داعش) والطائفية
المقيتة , وتعتيم الأجواء عن المُسبب الحقيقي للمجزرة الذين هم
أيتام وأعوان النظام السابق(الذي لم يغب عن ذهنه ممارساته التعسفية)
ولكن بمسميات جديدة .
3 ـ كشَفَ عن مدى شعوره بالإحباط الداخلي والإغتراب النفسي وإحساسه
بالضياع والفراغ . وهو يعيش أجواء نظام سياسي (ديمقراطي) مُختلف
كلية عن ما كان يألفه ويتنفسه ويأكله ويشربه من أجواء نظامه
(السابق) الشمولي التعسفي الذي لم يزل يصبو اليه ويحنّ ويشتاق
.
4 ـ شوّه وحرَفَ مجزرة (سبايكر) الواقعيّة التي لا تحتمل الإنكار ,
بواقعة (الأرامل ـ الإفتراضية) المُمسرحة والتي تحتمل النفي بعدم
وقوعها أصلا ً على أرض الواقع .
ـ وفي نهاية الكلام :
لا نريد من المُمثل والمخرج (سامي عبد الحميد) أن يروي لنا ما حدث
ويحدث من جرائم أنظمة ديكتاتوريات العالم لأن حقيقة ً( البينه
مكفينه ) أولا ً . ولأننا نعرف وندرك كما العالم يعرف ويدرك أيضا ً
خفايا ما يحدث في العراق بعد 2003 ثانيا ً . والعراقيين عموما ً
وذوي الضحايا خصوصا ً ويدركون جيدا ً ما حدث في (سبيايكر) ويعرفون
مَن هو المجرم الحقيقي , ومّن ترك الباب مُواربا ً للمجرم حتى نفّذ
جريمته الشنيعة ثالثا ً.
ولكننا نريد من (سامي) ما أراده العالم حينها من (دورفمان) الكاتب
الجريء الذي نجى بأعجوبة , حينما لم يرد إسمه ضمن القائمة (السوداء)
التي أعدّها الطاغية (بينوشييه) ونظامه المستبد لخصومه . وغادر عام
1976 العاصمة (سنتياغو) الى هولندا . حتى قيل له فيما بعد
:
ـ (حسناً كان لابد أن يبقى أحد ما حياً ليروي ما حدث) .
ـ ويبدو أن (سامي عبد الحميد) بقي حيّاً بما يكفي . ولكنه لم يروي
لنا ما حدث وجرى خلال (4)أربعة عقود لحكم البعث والطاغية (صدام) من
البطش والقمع والتعسف والطغيان والحروب واٌلإقتتال والسجون
والإعدامات والتهجير والنفي وجميع الجرائم التي يندى لها جبين كل
حرّ وشريف . ولا أظن بـ(سامي) يتمكن ويذعن ويستجيب للمسؤولية
الفنيّة والأدبية والأخلاقيّة والإنسانية , ويروي لنا جريمة واحدة
على أقل تقدير, كالجريمة التي حدثت أبان انتفاضة عام 1991م , والتي
راح ضحيتها (مئات الآلاف) من رجال ونساء واطفال وشباب من أبناء
جلدته الذين دُفنوا قسم كبير منهم وهم أحياء . وللآن لم يعثروا على
معظم جثامينهم .
لا أظنه يفعل لأنه ببساطة ليس (فلاديمير دورفمان) الشجاع !.
ـــــــــــــــــ
1ـ جريدة " الصباح الجديد " يوم 3 مايو 2018م . حوار أجراه "عبد
العليم البناء" في 17 يناير 2018م , تحت عنوان" مسرحية
(أرامل) إدانة لوحشية الأنظمة الشمولية .
2ـ جريدة "الأخبار" 26 تموز 2011م .
نجاح بيعي كتبت هذه المقالة بتاريخ 23-5-2018