لطالما كان العلم والدين مجالين يُثيران الفضول الإنساني لفهم الوجود ومراحله المختلفة. وبينما يبحث العلم في الظواهر الطبيعية وآلياتها، يقدم الدين رؤية شاملة تدمج بين المعنى والغرض. من بين القضايا التي أثارت نقاشًا واسعًا عبر العصور، نظرية التطور التي طرحها داروين في القرن التاسع عشر، والتي تفترض أن الكائنات الحية مرت بمراحل تطورية تدريجية عبر ملايين السنين.
لكن الحقيقة أن أسس نظرية التطور لم تبدأ مع داروين فقط، بل كانت موجودة منذ آلاف السنين. ففكرة أن الكائنات الحية قد تتغير مع مرور الوقت كانت موضوعًا نقاشًا بين المفكرين والفلاسفة في العصور القديمة. فقد أشار الفيلسوف اليوناني أرسطو إلى مفهوم التدرج في الكائنات الحية، حيث اعتقد أن هناك علاقة بين الأنواع وأنها تتطور بمرور الزمن. كما قدم المفكر الإغريقي "إمبيدوكليس" في القرن الخامس قبل الميلاد فكرة أن الحياة بدأت من كائنات بسيطة تطورت تدريجيًا إلى كائنات أكثر تعقيدًا.
وفي العصور الحديثة، جاء العالم البريطاني تشارلز داروين ليطور هذه الفكرة ويقدم نظرية التطور من خلال الانتقاء الطبيعي، والتي شرح فيها كيف أن الكائنات الحية تتغير بمرور الزمن من خلال تفاعلاتها مع البيئة. ومع ذلك، لم يكن داروين أول من طرح فكرة التطور، بل كان مجرد جزء من سياق علمي طويل تطور على مر العصور.
في المقابل، يُشير القرآن الكريم إلى مفهوم "الأطوار" في الخلق، مبينًا أن عملية الخلق تتم عبر مراحل متتابعة. يقول الله تعالى: "وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا" (نوح: 14)، مما يفتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول العلاقة بين هذه الأطوار وبين مفهوم التطور العلمي. فهل يمكن أن نجد توافقًا بين النظرية العلمية والنصوص الدينية؟ وكيف يمكن للعلم والدين أن يكملا بعضهما لفهم أعظم أسرار الكون؟
لماذا تحول فهمي لنظرية التطور؟
منذ سنوات، كانت ردة فعلي الأولى تجاه نظرية التطور مشابهة لردة فعل الكثيرين ممن ينتمون إلى خلفية دينية: الرفض القاطع. اعتقدت حينها أن هذه النظرية تتناقض مع مفاهيم الخلق التي نتعلمها من ديننا. فكيف يمكن أن تكون الكائنات الحية قد تطورت بشكل تدريجي وعشوائي، بينما نؤمن بأن الخالق هو من خلقها وأودع فيها الحكمة والهدف؟
لكن مع مرور الوقت، وتزايد دراستي في مجالات العلوم والتاريخ والفلسفة، بدأت أرى أن الأمور ليست بتلك البساطة التي ظننتها في البداية. اكتشفت أن العديد من الآراء العلمية والفلسفية حول نظرية التطور لا تتعارض بالضرورة مع الإيمان بوجود خالق حكيم. بل على العكس، بدأت أُدرك أن العلم والدين يمكن أن يتكاملا معًا، إذ يعزز كل منهما الآخر في فهم أسرار الكون.
ما أضاف إلى هذا التحول هو أنني بدأت أُدرك أن الدين لا يقتصر على تفسير شكل محدد لعملية الخلق، بل يتحدث عن أهداف ومعاني أعمق. فكرت في مفهوم "الأطوار" في القرآن الكريم، حيث تُشير الآيات إلى أن الخلق يتم عبر مراحل متتابعة، وهذه الفكرة ليست بعيدة عن فكرة التطور التي تتحدث عن التغير التدريجي للكائنات الحية على مر العصور. هذا جعلني أستفسر عن إمكانية أن يكون هناك توافق بين العلم والدين في هذا المجال، وأن التطور قد يكون جزءًا من خطة إلهية تتماشى مع مفاهيمنا الدينية.
ثم جاء سؤال آخر: هل بإمكاننا في إطار الإيمان بالله أن نقبل بفكرة أن الحياة تتطور من خلال آليات طبيعية، من دون أن يتناقض ذلك مع الاعتقاد بأن الله هو الخالق والمدبر؟ هذا السؤال كان نقطة التحول بالنسبة لي. بدأت أبحث عن إجابات، ومن خلال تلك الرحلة العلمية والدينية، توصلت إلى قناعة مفادها أن النظريات العلمية قد تقدم تفسيرات لكيفية تطور الحياة، بينما يبقى الدين هو الذي يقدم لنا الغاية والهدف وراء الخلق.
كما أنني لاحظت في كثير من الأحيان رفضًا مبدئيًا لنظرية التطور من قبل البعض، لمجرد الرفض، دون أن يتطرقوا إلى دراسة الأدلة والآراء المؤيدة لها. غالبًا ما يكون هذا الرفض مبنيًا على تحامل فكري أو تقليدي، دون فهم عميق للمفاهيم العلمية التي تقوم عليها النظرية. ولكن عندما بدأت أبحث عن التفاصيل العلمية، وتفحصت فكرة الانتقاء الطبيعي والطفرات الجينية، أدركت أن هذه العمليات لا يمكن تفسيرها دون وجود خالق حكيم وراء هذه الاختيارات والتغيرات. فالنظرية لا تدعو إلى الإلحاد كما يظن البعض، بل تدعو إلى التأمل في قدرة الله وحكمته في كيفية تطور الحياة عبر آليات دقيقة ومعقدة.
ففكرة الانتقاء الطبيعي التي عرضها داروين، والتي تظهر كيف أن الكائنات الحية تتكيف مع بيئاتها بشكل تدريجي، لا يمكن أن تكون مجرد عملية عشوائية أو فوضوية. هذه العمليات تحتاج إلى حكمة وتوجيه إلهي. الطفرات الجينية، على سبيل المثال، التي تُعد الأساس لحدوث التغيرات في الكائنات الحية، لا تملك في ذاتها قدرة على إنتاج تنوع معقد، بل هي آلية تتبع قوانين ثابتة ودقيقة، وهذا يدل على أن هناك إرادة إلهية توجه هذه العمليات بشكل مستمر.
وفي السياق ذاته، هناك سؤال آخر يبرز عندما نلاحظ التشابه الكبير بين الكائنات الحية على اختلاف أنواعها. كيف نفسر وجود نفس المكونات في الخلايا الحية، الدم، الأجهزة المختلفة مثل الجهاز التنفسي والهضمي، والعظام واللحم؟ هناك تشابه كبير بين الإنسان والحيوان في هذه المكونات البيولوجية، وكأنما هي جزء من نسق واحد في الخلق، مما يثير التساؤل حول مصدر هذا التناغم. هذا التشابه لا يمكن أن يكون مجرد صدفة أو مصادفة، بل يعكس حكمة خالقة قد أبدعت في تنسيق هذه المكونات بشكل دقيق وملائم لكل كائن حي. إذا كان هناك تشابه في الأنسجة والأعضاء، فماذا عن اختلافات الكائنات؟ ما الذي يجعلنا مختلفين عن بقية المخلوقات؟ فالتنوع الذي نراه اليوم بين الأنواع لا يعبر عن عدم وجود خالق، بل يعكس قدرة الله على التنوع والإبداع في تصميمه الكوني.
وبهذا التحول، لم يكن الموقف من نظرية التطور مجرد موافقة أو رفض، بل كان محاولة لفهم أعمق للكيفية التي يمكن أن يتناغم بها العلم والدين في فهم حقيقة الحياة والكون. وهكذا، بدأت رؤيتي تتغير تدريجيًا نحو تقبل فكرة التطور، دون أن يتأثر إيماني أو معتقداتي الدينية، بل على العكس، أصبحت أكثر وعيًا بتكامل العلم والدين في تفسير أعظم أسرار الكون.
انطلاقًا من هذه التجربة الشخصية، قررت تخصيص سلسلة من المقالات لمناقشة نظرية التطور من جميع الزوايا. سنناقش فيها التحولات التي طرأت على فهمي الشخصي لهذه النظرية. في المقالات التالية، سنناقش بالتفصيل الآراء المؤيدة والمعارضة للنظرية، وكيف يمكننا الربط بين العلم والدين في هذا السياق.
الشيخ الدكتور احمد خضير الكاظمي