(الأصول المتبعة عند نُّسَّاخ المخطوطات)
إنَّ النسخ كانت مهنة مهمة من المهن في ميدان العلم، وكان للنُسَّاخ والوراقين سوق خاص بهم، وعملية نسخ الكتاب ليست قائمة على نسخه فقط، بل هناك أمور أخرى تجري ضمنها لإتمام عمله للحفاظ على مهنته، ورواج سوقه، ومن أهم ما يتعلق بالنسخ:
(الرخصة)
إنَّ المخطوط الأصل والذي يكون بخط المؤلِّف ووقف عليه بنفسه يطَّلع عليه غيره يطلق عليها "المُسَوَّدَة" -بتشديد الواو وفتحها- وتخضع للتهميش والإضافات، وإذا نُسخت أصبحت "مَبَيَّضَة" -بتشديد الياء وفتحها- ووجب على الناسخ أنْ يلتزم تمامًا بما ورد في هذه النسخة، فأول مبدأ يقوم على أخذ الرخصة من المؤلِّف بنسخ المخطوط وهو في طور المسوَّدة، إلى أنْ تتم النسخة النهائية المعدَّة للنشر، وبعد ذلك يأخذ رخصة من المؤلف لنسخ الكتاب ونشره بين الناس.
(القراءة على المؤلف)
وفي هذه المرحلة يقرأ الناسخ الكتاب على مؤلفه أولاً بأوَّل، للتأكُّد من صحة ما ورد في الكتاب، وقد يكون على مرأى ومسمع من الناس، وهذه عملية فيها من الصعوبة؛ لأنها تتعلق بوقت المؤلِّف وفراغه، وقد تكون طويلة، لذلك كان العلماء يمنحون الورَّاقين أوقاتًا معلومة وعليهم الحضور في الوقت المحدد، للمراجعة والتدقيق والإجازة للعمل الذي سينشر، وهذه المرحلة مفيدة للمؤلِّف أيضًا فربما حذف أو أضاف.
(إجازة المؤلِّف)
إنَّ المؤلِّف بعد أنْ يصل الكتاب إلى مرحلة القراءة الأخيرة يعطي إجازته للعمل؛ لأنَّ الإجازة شرط مسبق قبل القيام بعمل النقل أو النسخ، وهذه الإجازة للورَّاق تعني حصول الموافقة الشرعية بنقل الكتاب للآخرين، فيتم النسخ على النسخة الأصلية المجازة من قبل النُّسَّاخ الآخرين، وإذا حصل تلاعب في النسخة الأصلية يقوم المؤلِّف بإعادة إملائه أو نسخه مجدَّدًا، فالأمانة العلمية في الإجازة أنْ يأخذ الناسخ إجازته من المؤلِّف نفسه، ثم هو يمنحها إلى ورَّاقين ثقاة آخرين، وفي ذلك وازع ديني وأخلاقي في المحافظ على أصل الكتاب ونشره وتكثير نسخه.
(أخلاقيات النسخ)
لقد حافظ الورَّاقون على أخلاق خاصة تتعلق بمهنتهم، وكان من أهمها الأمانة في الكتابة والنقل، وعدم النسخ إلا بعد الإجازة من مؤلِّفها، وإذا توفِّي من أبنائه أو تلميذه، أو ممن له حق في إعطاء الإجازة من قبل المؤلِّف، ومنها أنْ يراعى في ترتيب الكتب الأشرف فالأشرف، فالمصحف الشريف يُجعل أعلى الكل، أو يعلق على الحائط، ثم بعده كتب الحديث، ثم تفسير القرآن، ثم تفسير الحديث وهكذا، ومنها أنْ يكون الناسخ للكتب الشرعية على طهارة، ومستقبل القبلة، طاهر البدن والثياب، والحبر والورق، وأنْ يبتدأ بـ(بسم الله الرحمن الرحيم) وإنْ كان المؤلِّف تركها، ويختم الكتاب بالحمد لله والصلاة على رسوله، ومنها أنْ يتبع ٱسم الله تعالى بالتعظيم عند كتابته، والصلاة على النبي عند ذكر ٱسمه، وتكرار ذلك دون ٱختصاره، وأنْ لا يفصل بين ٱسم الله ومضافه، فيكون (عبد) آخر السطر و(الله) أول السطر، والاعتناء بصحة الخط، وعدم خلط الحروف، والابتعاد عن المشق أي سرعة الكتابة مع بعثرة الحروف، وٱختيار قلم ليس بصلبٍ ولا رخوٍ، ومنها عدم الخلط بين أنواع الورق لئلا يكون غشًّا، ومعرفة مضمون الكتاب قبل نسخه لأسباب متعددة، منها شرعية وأخرى مهنية، وعدم النسخ للظالمين، وغيرها من الأمور الأخلاقية التي لها علاقة بهذه المهنة التي فيها من الصعوبة والمشقة.