اشتدَّ المرض بولدي، بعد أن ماتت زوجتي من فرط الجوع ،
دفنته ورجعت إلى الخيمة لأستريح. كنت جائعًا ، فأصابني
الذهول، وانهارت قواي، وانا الشيخ الطاعن في
السن، فنظرت إليه ابنتي، وإذا بعينيي قد انقلبتا،
فبكت.فقلت لها ما يبكيك؟قالت: كيف لا أبكي، وأنت تموت
في فلاة من الأرض، وليس عندنا ثوب يسعنا كفنًا لي ولا
لك، ولا بدَّ لي من القيام بجهازك.فقلت لها :ـ أبصري
الطريق، لعلَّ هناك أحدًا من المؤمنين. فقالت يائسة:
أنَّى، وقد ذهب الحاج، وتقطعت الطريق. قلت لها:
أبشري، فإن رسول الله (ص) قال: (إنَّ رجالاً من
المؤمنين سيدخلونَ الجنة بِتَجهيزِك).فراحت ابنتي، ترسل
عينيها راجية باكية، وإذا بركب قادم من بعيد، أشارت
إليهم، فأسعفوها، وقالوا: ما لكِ؟ قالت: أمرؤ من
المسلمين، تُكفِّنُونَه، وتؤجَرون فيه.قالوا: ومن هو؟
قالت: أبو ذر الغفاري، صاحب رسول الله (ص).قالوا:
بآبائنا وأمَّهاتِنا هو. فدخلوا خيمتي المتواضعة،
فبادرتهم :ـ والله ما كذبت، ولو كان عندي ثوب يسعني
كفنًا لي ولابنتي، لم أكفن إلاَّ في ثوب هو لي ولها.
وإني أنشدكم الله أن لا يكفنني رجل منكم كان أميرًا،
أو عريفًا، أو بريدًا، أو نقيبًا.فلم يُجِبني إلاَّ
فتى من الأنصار، قائلاً لي: إني أكفنك يا عم في ردائي
هذا الذي اشتريته بمال كسبته بعملي، وفي ثوبين من غزل
أمي، حاكتهما لكي أحرم فيهما.فقلت :ـ أنت تكفِّنُني،
فثوبك هو الطاهر الحلال، سارحل عنك سيدي فدعني اقول
لك انك حين استشهدت بقيت شاهدًا على مجتمعك
وعلى التاريخ كله، وكأنك لم تمت.قبل ان اعود منه
الربذة رأيت الثائر العظيم وقد اغمض عينيه، ليودَّع
الدنيا شهيدًا، سنة (31 هـ)