الوعي الجمالي في نهج البلاغة

2021/03/01

يعتبر الوعي الجمالي من المواضيع المهمشة في عوالم النقد، رغم الارتكاز الكلي على المعنى الحداثوي، وذلك بسبب عدم العناية الكافية بـ(علم الجمال) الذي يرى الفن هو نتاج الوعي الجمالي في نمط من انماطه التاريخية من منظور ذاتي تقويمي.
يرى الدكتور فؤاد مرعي: احالة الفن على الواقع لايمكن ان تكون احالة مباشرة أي لايمكن ربطه بما هو فردي صرف.
ويؤكد غولدمان: صدور المعنى الحقيقي عن بنى ذهنية ما وراء فردية... كإجابة الإمام عليه السلام عن سؤال سألوه: كيف نجدك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام: (كَيْفَ يَكُونُ حَالُ مَنْ يَفْنَى بِبَقَائِهِ ويَسْقَمُ بِصِحَّتِهِ ويُؤْتَى مِنْ مَأْمَنِهِ). فكلما طال عمر الانسان يتقدم الى الفناء، وكلما مدت له الصحة، تقرب من مرض الهرم، ويأتيه الموت من الجهة التي يأمن البقاء منها وهي نفس البدن.

والملاحظ جديا تجاوز نهج البلاغة عن أي طرح فردي مصلحي او ذاتي شخصي، فهو يسعى الى الدفاع الجدي عن الدين والانسانية والمصلحة العامة للدولة والمجتمع، اي قراءة العالم من خلال ذات مبدعة مؤمنة.
فيرى البعض: أن هذا المنجز المهم ملحمة درامية تجاوزت الذاتية المتعلقة بكل ما هو شخصي، ومثل هذا التجسيد الذي هو احدى القيم الجمالية سيجد مساحة كافية لإلغاء التقريرية والكلام العادي، ويدخل في حومة الاشتغال البلاغي، كقوله عليه السلام: (مَنْ جَرَى فِي عِنَان أَمَلِهِ عَثَرَ بِأَجَلِهِ). والعِنَان: هو سير اللجام تمسك به الدابة، أي من كان جريه الى سعادته بعنان الامل، يمني نفسه لبلوغ مطلبه بلا عمل، سقط في أجله بالموت، قبل ان يبلغ شيئا مما يريد...
ويرى معظم النقاد: انه لايجوز الفصل بين الوعي الجمالي والمستويات الاسلوبية الفنية، وهذا بحد ذاته موضوع مهم لابد التأمل فيه، أي يعني ان المستويات الاسلوبية والوعي الجمالي الجمعي في علاقة طردية، فتزايد اي منهما يساهم في تنامي الآخر والعكس صحيح، وهذا سيصب في صالح أي قراءة نقدية تأملية لنهج البلاغة، لكونه مر على تعاقبات اجيال نقدية، فلكل جيل له معطيات وعيه الخاص، والتي تتنامى عبر مدركات زمانية مكانية، أي عبر القضايا العامة التي لاتتقيد بزمن ومكان، كقوله عليه السلام: (لَنَا حَقٌّ فَإِنْ أُعْطِينَاهُ وإِلا رَكِبْنَا أَعْجَازَ الإِبِلِ وإِنْ طَالَ السُّرَى).
يرى الشيخ محمد عبده: ان هذا من لطيف الكلام وفصيحه ومعناه: ان لم نعط حقنا كنا أذلاء، وذلك ان الرديف يركب عجز البعير كالعبد والاسير، ومن يجري مجراهما. وقد يكون المعنى إن لم نعط حقنا تحملنا المشقة في طلبه، وإن طالت المشقة. وركوب مؤخرات الابل مما يشق احتماله والصبر عليه. وحتى لو نظرنا الى مكونات المستقبل الآتي، لنعرف ان اجيالا نقدية اخرى سيمر بها نهج البلاغة، يتضح لنا فعلا ان هذا النهج معين لاينضب من الجمال، له ألق خاص قابل للتماهي مع رؤى كل جيل، كقوله عليه السلام: (إِذَا اسْتَوْلَى الصَّلاحُ عَلَى الزَّمَانِ وأَهْلِهِ ثُمَّ أَسَاءَ رَجُلٌ الظَّنَّ بِرَجُلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ خَزْيةٌ فَقَدْ ظَلَمَ وإِذَا اسْتَوْلَى الْفَسَادُ عَلَى الزَّمَانِ وأَهْلِهِ فَأَحْسَنَ رَجُلٌ الظَّنَّ بِرَجُلٍ فَقَدْ غَرَّرَ) والخَزْية: بلية تصيب الانسان فتذله وتفضحه، وغرر: اي أوقع نفسه في الغرر اي الخطر.
ومن الجميل ان هذا الانجاز المبدع لايتعامل تعامل الموروث اطلاقا، بل يتعامل تعاملا مرتكزا على المعاش في كل جيل، وقد تجاوز التناظرات التجديدية نفسها، كقوله عليه السلام: (لا تَسْتَحِ مِنْ إِعْطَاءِ الْقَلِيلِ فَإِنَّ الْحِرْمَانَ أَقَلُّ مِنْهُ).
احد مؤثرات الوعي الجمالي هو الارتكاز على العديد من الاشتغالات المبدعة، كايقاعية الجرس الداخلي، والذي يعطي زخما تدفقيا، ومداً ايقاعيا، كقوله عليه السلام: (والْعَدْلُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى غَائِصِ الْفَهْمِ وغَوْرِ الْعِلْمِ وزُهْرَةِ الْحُكْمِ ورَسَاخَةِ الْحِلْمِ فَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ ومَنْ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ صَدَرَ عَنْ شَرَائِعِ الْحُكْمِ).
وغور العلم: باطنه، وزهرة الحكم: حسنه، والشرائع: الظاهر المستقيم من المذاهب، ومورد الشارب، وصدر عنها: أي رجع عنها بعدما اغترف ليفيض على الناس مما اغترف، فيحسن حكمه.
الارتكاز على البنية الصورية يـقوم على خلفية تعبيرية. ومن اهم السمات الجوهرية للوعي الجمالي هي (التجادلية) لكونها تؤدي الى فهم العالم والوجود الانساني من منظور التناقض، كقوله عليه السلام: (وإِيَّاكَ ومُصَادَقَةَ الْكَذَّابِ فَإِنَّهُ كَالسَّرَابِ يُقَرِّبُ عَلَيْكَ الْبَعِيدَ ويُبَعِّدُ عَلَيْكَ الْقَرِيبَ). فيؤكد وجودها على الصراع المبدئي.

ويسميها الدكتور سعد الدين كليب: بالخلفية الفلسفية للوعي الجمالي. ويذهب غيره من النقاد: الى ان الوعي الجمالي كشيء عام، هو فكر يترعرع في اطار المنظومة المعرفية لواقع تاريخي، وهذا بطبيعته سيلغي لنا المسافة المتكونة من لحظة الإنشاء الى لحظة القراءة. في حال ان عوالمها بين ايدينا يافعة حية تنبض بالحياة، كقوله عليه السلام: (لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ وقَلْبُ الأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ).
يرى الرواة ان هذا من المعاني المحببة الشريفة، والمراد به: ان العاقل لايطلق لسانه الا بعد مشاورة الروية ومؤامرة الفكرة، والاحمق تسبق لسانه وفلتات كلامه مراجعة فكره، ومماخضة رأيه.
الاستاذ طارق شفيق يرى: ان الوعي الجمالي له مقاربات واعية من الوعي الديني، حيث الانفعال الكوني الذي يرتبط بجلالة المقدس، كقوله عليه السلام: (لا يَقِلُّ عَمَلٌ مَعَ التَّقْوَى وكَيْفَ يَقِلُّ مَا يُتَقَبَّلُ). وربطها فلاسفة اليونان بالمنفعة، فالجميل ما يبلغ غايته كقوله عليه السلام: (الْغِنَى فِي الْغُرْبَةِ وَطَنٌ والْفَقْرُ فِي الْوَطَنِ غُرْبَةٌ).

وعند سقراط بمعنى الخير.. كقوله عليه السلام: (فَاعِلُ الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْهُ وفَاعِلُ الشَّرِّ شَرٌّ مِنْهُ) وافلاطون جردها عن اللذة، واخرون نظروا اليها كمال المعرفة الحسية.
ويرى الدكتور عز الدين اسماعيل: ان التفكير في سر القبح بحثا عن تجاوزه، سيصبح التفكير جميلا كقوله عليه السلام: (احْذَرُوا صَوْلَةَ الْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ واللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ).
أخترنا لك
التأويل

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة