التشبيه هو فن من الفنون الكلامية التي تشكل في البيان العربي عنصرا
أساسيا من عناصر الإبداع في عملية التركيب الجملي- نجد إن المعنى
القصدي للمبدع داخل النتاج لا يتم إلا به... يقول الإمام علي(ع
):{فَمَا رَاعَنِي إلا والنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ
يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ}. وعرف الضبع: ما كثر على
عنقها من الشعر، وهو ثخين يضرب به المثل في الكثرة والازدحام.
وينثالون: أي يتتابعون مزدحمين.. فنجد إن بلاغة سيد البلغاء أمير
المؤمنين (ع) لا يقصد بها العمل التشبيهي، كغاية منشودة. بل هي وسيلة
من الوسائل البلاغية التي يتم عبرها التوصيل، فتبنى على ضرورة الصياغة
والتركيب.
التميز حق مشروع يديم التأمل فيه، ويعطي حصانة إبداعية لعدم التجني
يوما على خصوصيات الكتابة عند المبدع، وهذا يعني إن مثل هذه الوسائط
اللغوية، صارت عنوانا بارزا من عناوين بلاغة سيد الأوصياء(ع) فهو
يقول: (حَتى لَقَدْ وُطِئَ الحَسَنَانِ وشُقَّ عِطْفَايَ
مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ) وشق عطفاه تعني: خدش
جانباه من الاصطكاك ـ وكان هذا من الازدحام لأجل البيعة على الخلافة.
وربيضة الغنم ـ الطائفة الرابضة من الغنم - يصف ازدحامهم حوله،
وجثومهم بين يديه. ولو تأملنا داخل هذا المسعى البلاغي، لوجدنا إن
التشبيه يمنح النتاج روعة واستقامة كقوله (ع): (ولالْفَيْتُمْ
دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ) وعفطة
العنز: ما تنثره من انفها كالعفطة، ويستعمل ذلك في النعجة، ويقال:
إنها نفطة. وتقول العرب: ماله عافط ولا نافط، أي لا نعجة عنده ولا
عنز...
يسعى الإمام علي (ع) لتقريب المفاهيم المعروضة، من خلال سعي توصيلي
الى الاستشهاد بالمعالم والمشخصات القريبة لنفسية المجتمع العربي،
والذي مثلما هو معروف مجتمع منصهر في الأرض وما تحتويه يقول الإمام
علي عليه السلام مشبها: (كَالزَّارِعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ) فيشير
الإمام (ع) إلى إن الوقت الذي كان في زمن السقيفة لم يكن مناسبا
ليطالب بحقه فلو نهض إليها كان كما الزارع بغير أرضه لا ينتفع بما
زرع.
والسعي التشبيهي عموما يمثل صورة شعرية لها مؤولاتها وشرحها وتفسيرها
القريب لنفسية المجتمع، ويعتبر أساسا احتواء شعورية المتلقي.. كقوله:
(وَ الله لا أَكُونُ كَالضَّبُعِ تَنَامُ عَلَى طُولِ اللَّدْمِ)
واللدم كان معروفا عند العرب: هو الضرب بشيء ثقيل يسمع صوته. ويروي
لنا الرواة: أن صائد الضبع كان عند العرب يضرب بعقبيه الأرض عند باب
حجرها ضربا غير شديد ـ وذلك هو اللدم ويكرر أصوات يعرفها العرب مثل
خامري أم عامر) بصوت ضعيف مرارا فتنام الضبع ويجعل عرقوبها حبلا
ويجرها فيخرجها.
والتشبيه كمسعى بلاغي يعني تكييف النص الأدبي نحو المعنى، ومنها تظهر
سيطرة المبدع الحقيقي على سير العملية الإبداعية. وعند الإمام عليه
السلام وجدنا خصوصية تحرك الرأي الخاص المبثوث عبر تلك التشابيه تأخذ
عدة مناحي مهمة، ومنها التأويلية الخاصة والتي كانت تشكل أحيانا نبؤات
بحالات معينة مثل قوله عليه السلام في إحدى خطبه لأهل البصرة: (وايْمُ
الله لَتَغْرَقَنَّ بَلْدَتُكُمْ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى
مَسْجِدِهَا كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ أَوْ نَعَامَةٍ جَاثِمَةٍ) وفي قول
آخر(كَجُؤْجُؤِ طَيْرٍ فِي لُجَّةِ بَحْرٍ) فالجؤجؤ: الصدر من السفينة
أو الطير أو أي شيء آخر. وجثم إذا وقع على صدره أو تلبد
بالأرض.
وقد وقع ما أوعد به الإمام علي بن أبي طالب (ع) أمير المؤمنين فقد
غرقت البصرة إذ جاءها السيل من جزيرة فارس من جهة (جبل سنام) ولم يبقَ
منها إلا مسجدها فلم يغرق...
وهناك محاكاة في الأمور المحسوسة والمماثلة في المدركات والمشاهد
لكونها تشكل انتقالا من الأمور الذهنية الصرفة الى مرتكز عياني- كقوله
عليه السلام: (أَلا وإِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ حُمِلَ
عَلَيْهَا أَهْلُهَا وَ أُعْطُوا أَزِمَّتَهَا فَأَوْرَدَتْهُمُ
الْجَنَّةَ). فالتقوى تحفظ النفس من كل ما ينكبها عن صراط الشريعة
وصاحبها عن الجادة لا يزال حتى يوافق الغاية. والذلل: جمع ذلول وهي
المطايا المروضة السلسة الانقياد....
ومثل هذه المتقاربات ستنقل المتلقي الى عوالم أخرى يتصور من خلالها
القصد الذي أسس عليه المقال البلاغي.. وتمتاز مثل هذه المقاربات كأدلة
مبرهنة لا تحتاج إلى جهد عقلي في تصور المعروض، ولا تشكل عبئا على
المتلقي ـ كقوله عليه السلام: (فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ فِي
مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ لا يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ) أي
الجاهل بشيء ليس على بينة منه، فإذا انتبه عرضت له الشبهة في ثقته،
وان نفاه عرضت له الشبهة في إثباته، فهو في ضعف حكمه في مثل نسج
العنكبوت ضعفا ولا بصيرة له في وجوه الخطأ والإصابة، فإذا حكم لم يقطع
بأنه مصيب أو مخطئ.
ويرى الشيخ محمد عبده وبعض علماء البلاغة إن الإمام علي (ع) قد استطاع
في هذا التشبيه أن يعطي ابلغ ما يمكن من التعبير عنه.. ونجد إن مثل
هذه التشبيهات تتميز بالسلاسة والسهولة أي لا عناء فيها لمن يقرأ ولا
تكلف لمن كتب وتأتي بجمل تشبيهية أقوى دلالة من المشبهات نفسها فيقول
الإمام أبو الحسن عليه السلام: (لَمْ يَعَضَّ عَلَى الْعِلْمِ
بِضِرْسٍ قَاطِعٍ). ومن عادة عاجم العود أي مختبره ليعلم صلابة العود
عن لينه أن يعضه، فلهذا ضرب المثل في الخبرة بالعض بضرس قاطع أي انه
لم يأخذ العلم اختبارا بل تسول إليه كما تسول الوهم وصول الجناة، ولم
يقف على محض الخبرة ليتبين أهو حق أم باطل.. نجد إن التشبيهات تعطي
تأثيرا أعمق من سواه من البلاغيات، ويحقق متعة اكبر أثناء القراءة-
ويسعى إلى التجانس الكلي مع متلقيه والتقرب الى عوالمهم من خلال هذه
المشبهات.. وجدنا أيضا إن أمثلة التشبيهات في المحور الخطابي في بلاغة
الإمام علي (ع) كثيرة جدا لا يمكن احتواؤها في مقال