كربلاء اكبر من كل خرائط الكون، بما تحمل من هييبة وكبرياء يُحشد
العبرة عند استغاثة الجراح ، بقوافلها السارية خلف الركب الحسيني
المبارك ، عبر كل جيل ، تواريخ الم تجمع شبابها ليتداولوا في امر
انتفاضة تبيض الوجه امام سيدها الحسين ، التوقع موجود والاخبار
الواردة من محافظات الجنوب تبارك الخطوة ، لكننا تنتظر الوثوب وترى
بالمقابل ، استعدادات امنية كبيرة تملأ الشوارع من سيارات امن تجوب كل
خافق وطريق
دبابات ومدرعات تستعرض قوتها،
كربلاء كانت لحظتها قلوب تنبض باللهفة شوقا لتحين انطلاقة المصير ،
كان معنا في المجموعة الحالمة ، حسين اموري ، علي حمزة عبيد ، كريم
ومحمد اولاد الحاج جليل النجار ، وآخرون يوقدون الصبر ويتداولون شأن
الانتفاضة وامورها ، حلم ان يقف الانسان بطوله يتحدى سطوة العروش ،
يصيح بأعلى صوته
:ـ لبيك يا حسين
حيوية ما يرد من اخبار الانتفاضة في البصرة والناصرية وميسان والكوت
وكركوك وبابل ومحافظات اخرى تحفز فينا روح النهوض ، لااحد فينا يعرف
شكل الانتفاضة او لونها ولاكيف تكون في حكم عصبة تؤمن بالقتل والفتك
وتستهين بدم الانسان ، المهم اننا سنقف امام اكبر طغاة العصور السالفة
والحديثة ،
ولذلك نزلنا بكامل اسماءنا واشكالنا ، لم تجد فينا من فكر ولو تفكير
بسيط بارتداء لثام ، في جميع محطات المواجهة في مبنى المحافظة الى
دائرة الامن في باب بغداد ، مجموعة من ابناء المنطقة ، تجمعهما الالفة
والصداقة والسلام ،
كان الصمت يلوح في مديرية امن كربلاء ، لارد سوى صدى هذا الدوي ، وهذا
الصمت مارد مخيف في لحظتها ،
:ـ شباب أحذروا ، نخشى ان هناك كمين ،
حاول الشباب استدراجهم الى المواجهة طال الصمت في ارجاء الموقف ولم
يبق امامنا ، سوى المغامرة بالدخول ، صاح احدنا
:ـ هربوا
عقب الآخر ،
:ـ لاشك انهم هربوا ،
كنا لحظتها خارج مديات المعقول ، توقف عندنا الشعور بالخوف او رهبة
الموقف المستوطن بالبال كمديرية أمن ، لها سطوة مؤذية على مشاعر كل
كربلائي ، بيتنا القريب عن هذه المديرية يجعلني الاكثر الفة مع المكان
، انا اكثرهم قربا لكل وجع كان ينزف الجراح ، كنا نسمع انين المجروحين
من ليل المهالك ، ونسمع صرخات التعذيب ،
كنا نزاول الحزن النبيل من اجل الآخرين ، انفلت الصوت ليكسر خشوع
الصمت
:ـ انا سادخل من تحت الباب ،
وبان لحظتها الفرح والترقب على الوجوه ، وانزاح خشوع الصمت ، هم
يبحثون عن انواط شجاعة واوسمة الرضى من طاغيتهم ، ونحن نسعى لرضىا
الرحمن ونصرة المولى ،
صاح احدنا ،
:ـ انتبه ..
:ـ كن حذرا خشية ان يكون في الامر مكيدة ، اشعر ان قوة ما تدفعني
للولوج الى الداخل ، الصمت يدفعني الى الخشوع ،
احمد رحيم ـ حجي مهدي المصور ـ مجموعة من شباب كربلاء ، وجلال وياسر
الصراف وعلي وطلال حمزة وعند الدخول وجدنا سرداب ارضي يضم اجساد
المفجوعين بمرارة هذه السطوة ، سجناء ارهقهم السجن والتعذيب ، كانت
المواجهات الاولية صعبة المراس وقد سقينا حقل الشهادة باول مضمخ يحمل
فصول مواجهة تصل به الى مرابع الركب الحسيني ، حملنا اول شهيد من
شهداء الطف التسعيني ياسر الصراف وحملناه على الاكتاف الى الطبابة
للمعالجة ، وبعدها تم تشكيل مجاميع قتالية حملت تواقيع اسماء بعض
الشباب في الذاكرة الكربلائية مثل (كريم جليل ومؤيد عبيس وطلال حمزة )
والكثير من الشباب وقد عانوا من صعوبة حركة الانتقال من مكان الى آخر
لسد الثغرات التي يفتحها الجيش المهاجم من عدة محاور قتالية بسبب شحة
الوقود ، ولذلك كان تحركهم باتجاه المحاور القتالية مضنيا ويعرض
المقاتلين الى الهلاك ، وحين تحركنا الى طريق الرزازة لمواجهة احدى
القوى المهاجمة في معركة غير متكافئة لضخامة النار الموجهة ضدنا ،
شعرنا ان لابد من الرجوع الى تحصينات اكثر نفعا للمواجهة والى تحشيد
قوة شبابية اكبرمن ابناء المدينة ، فعدنا مشيا الى مركز المدينة
وليتوزع الشباب ليلا لأقامة سيطرات تحمي دواخل كربلاء مع شدة القصف
الذي لاينقطع دويه ، وانين الارصفة يبعد النوم من عيون الساهرين على
ضفاف الصبر والتصابر ، وتوزع بعض الشباب على سطوح الفنادق وعلى عمارة
التأمين حيث كان يرابط هناك المقاتل الكربلائي( قاسم صالح ابو الكبة
وحسين ناجي النصراوي وعند ملتقى المواجهة فاجئنا سرب طائرات فعّل
القتال وصعب مهمة المواجهة ، كنت احمل حينها سلاح سترله محمول ،نشبت
معارك ضارية على عدد من المواجهة قدم فيها الكربلائييون صفحات مشرقة
من الصبر والتصابر والصمود ، الجميع يعرف ان القوى المتحاربة غير
متكافئة ، هذا اللاتكافؤ العسكري لم يكن غريبا على كربلاء فقد شيدت من
هذا اللا تكافؤ العسكري فوزا معنويا شيد لها الخلود ، عشرات من انصار
الحسين عليه السلام ، واجهوا اشرس الجيوش صفاقة في ال 61 هـ واليوم
احفادهم يعيدون هيبة تلك الوقفة ثانية ، عند الوادي القديم اشتد اوار
المواجهة ، شباب استجابوا لنداء النصرة وعانقوا التراب الكربلائي
شهداء ، يقول احد المدافعين عن كربلاء ، الشهادة لها امكانية تخطي
الازمنة ، اذ يحمل الحسين عليه السلام جسد كل شهيد من شهدائنا ليواريه
في خيمة المذبوحين ضيما من صحب الحسين وانصاره الميامين ، هناك استشهد
عادل بن رزاق الخباز ومجموعة من الشباب الكربلائي ، وكلما نعود من
مواجهة نركض لأخرى اذ تقدم الجيش من طريق بغداد ، صوت المكبر ينادي ،
:ـ اخترق الجيش طريق بغداد وتجحفل قرب عون ، صاح الحاج علي الوزني ...
توكلوا على الله ، قمت ومعي مؤيد بن عباس فارس ، كان التفكير يدور حول
قضية اسكات المدفعية المتوجهة من مفترق الجمالية ، نظرنا الى القوة
المتقدمة والى كثافة النار ، وبعدما كشفنا محاور العدو وعر فنا حجم
النار رأينا من الانسب العودة لجمع مزيد من الذخيرة والرجال ونحتاج
الى الاكل والشرب ، يخيل الي دائما اننا عبارة عن قوة خارقة تقاتل في
عدة محاور دون راحة أو نوم او طعام ، عند عودتنا وجدنا امامنا نداء
آخر يخبرنا عن وجود هجوم داخل كربلاء من صوب العباسية ، ذهبنا لندخل
قلب النار مع اخوتنا ابناء العباسية ونصد الهجوم بقوة وبعد جهد نهار
مضن ،
:ـ كان الله عونكم
:ـ اهلا ومرحبا
:ـ قسموا واجباتكم الليلية ، تناوبوا الراحة فيما بينكم فقد يحمل الغد
لكم الكثير من القتال ،
من منا يستطيع النوم وكربلاء بين كفيّ المدفعية ؟ حقا كيف يغمض جفن
عين وهي ترى عشرات الشباب يجودون بالنفس ورغم الحزن الذي انتابني أشعر
بأن الموقف البطولي الذي عشقته قد منحني الكثير من الهيبة مع نفسي ،
وتعلقت روحي بمن حولي من الرجال ، ببنادقهم التي عانقوها وناموا ،
لينصركم الله يا أبناء الحسين ، ساعات وتأتي المواجهة ، هل سنكون
قادرين على حمل الامانة ـ كربلاء في الاعناق استيقظت على صباح
النداءات التي صرنا نسمعها وكانها تأتي من أعماق كربلاء من صوتها
المتداخل عبر القرون ،
:ـ لبيك يا كربلاء
ملحمة تقودها طائرات الهليكوبتر في باب بغداد ، كيف تقصف كربلاء بهذه
الوحشية وأولادها ينامون ، ركضنا باتجاه مصدر النار توزعنا على سطوح
العمارات ومن على حسينية أهل الكرادة في باب بغداد ، دارت معركة غير
متكافئة بين اسلحة المقاتلين البسيطة وطائراتهم ، حملنا بنادقنا
وتوزعنا على طوال الطريق المؤدي الى جهة بغداد وصولا الى فندق الحوراء
، شباب تنمو في دواخلهم مواسم الزيارة ، يا ليتنا كنا معكم ، ونصرة
الحسين قذيفة توجهت نحو سيارة الاسعاف التي كان يسوقها( ضياء ناظم)
ومعه ( طلال حمزة عبيد ) احترقت السيارة وقتل من فيها من المصابين
وكانت نجاة طلال وضياء تعد خارقة من خوارق الانتفاضة ، واستشهد ( علي
السيد محسن البايسكلجي ) ومعه ( محمد عبد الواحد القصاب ) من باب
السلامة بعدما قاتلا سوية وضربا عدة سيارات إيفا بالقاذفات ، وترجل
لهما الحرس وصارت مقابلة قريبة المسافة ولكثرة الأسلحة المواجهة قتلا
رحمهما الله ، جهزنا لنا مقرا مؤقتا اشبه بمقر القيادة في بيت ( محمد
عباس ) وتبقى اسلحتنا عامرة باحلام غد يرفع الراس واقسمنا ان نتقدم
صوب بغداد بقوة نرد بها الجيش ، وكل منا يرسم صورة في مخيلته عن الدور
البطولي الذي سيقوم به وفعلا جاء الغد وفيه بشائر مواجهة شرسة ،
تقدمنا صوب فندق الحوراء ،كانت القوة المجتمعة قرب مرقد عون كبيرة جدا
ولها كثافة نار لايمكن مواجهتها بهذا العدد القليل من المتطوعين
الاهالي وباسلحة بسيطة ، اشتد القصف بانواع الاسلحة المتوسطة والثقيلة
، اصيب حينها الشهيد ( سعد بغدادي ) حقيقة هناك شجى والم في نفسية كل
مقاتل يشعر انه لايقدر على ان يؤثر في الخصم لقوة عدته وكثرة عدده
وفارق المسافة التي تطولنا مؤثرات سلاحه دون ان نؤثر فيه تلك مصيبة
والله ، ولذلك شددنا الهمة الى مايسمى بحرب المدن ، حينها سنكون وجها
لوجه ويعني ان الكثير من الاسلحة سيسقط مفعولها ويصبح حجمها عبئا
عليها ، هناك داخل المدينة سنقدر على سد الفوارق الكبيرة ، فلذلك كان
الهاجس الشعبي العام عند أهالي كربلاء يميل إلى استدراج الجيش إلى
داخل كربلاء سيفّعل دور الازقة ، التي يمكن أن تفضي على فارق القوة
بين أهالي كربلاء من المقاومين والجيش المهان الباحث عن نصر واه يغطي
به العيب التآريخي الذي أصابه جراء حمقات قائد أبله ، المهم تفرغنا
تماما لنقل الجرحى إلى المستوصف الذي مازال قائما في باب بغداد ، حيث
كان المضمد ( خضير ياس ) يداوي الجرحى ويجري عمليات جراحية وأجرى
عمليات جراحية لبعض المقاتلين امثال ( سعد بغدادي ـ عمار الأموي )
وكان القتال مستمرا طوال النهار وأغلب ساعات الليل ، بدأت اعدادنا
تتقلص شيئا فشيء ، اذاع النداء عن خرق عدد من الدبابات الى شارع
العباس ، تلمسنا المدينة رصيفا رصيفا ، محروسة برب الكون يا مدينة
الحسين ، الشباب يعرفون كل طرقها ، شوارعها أزقتها ، ، لم يمر في
بالنا سوى هذا الشرف العظيم الذي يعني الدفاع عن ميدنتنا وناسنا
واهلنا ثمة التفاف خلف البريد ، رفعت الدبابة سبطانتها نحوهم ومن ضمن
هذه المواجهة احترق الاستوديو المقابل البريد ، سرب دبابات يحمل الموت
والدمار واستشهد (محمد عارف البناء ) رحمه الله وبعض الكربلائيين في
سوق النجارين ، وعند استدارة شارع العباس ، كنت احمل صاروخ فازة وقفنا
فجأة مذهولين ، كل شيء صار أمامي بلا حراك سوى هذا الموت المتعرش،
واجهنا الموت وجها لوجه ، أنا ويوسف كريم يحمل خطوات من الصمت ،توقف
كل شيء في الحياة ، يا الهي الدبابة أمامي هي تحاول ان تبتلع كل من
يقف أمامها ، مددت يدي وبسرعة مذهلة ، أصبت الدبابة ، احترقت الدبابة
، يا الهي سمعت كربلاء حينها تزغرد بصلواتها ـ واعتقد ان هذه اللحظات
قد وثقت من كاميرة السيد عماد ، فاستقبلتني محلة باب بغداد استقبال
المنتصرين ، واما في حومة باب بغداد عند المواجهة التي يتحدث عنها
الناس الى اليوم فقد وفقني الله ،فضربت اول دبابة وصلت مقابل الأمن ،
وتقدمنا في تلك الساعة صوب حسينية الكرادة ، وفي الجهة المواجهة لصوب
المركزية تم أسر بعض المجاميع العسكرية والملاحظ انهم استقبلوا
استقبال الضيف العزيز ، تداعيات الزمان تلاشت مواقيتها ، فاصبحنا نحمل
الذاكرة مواقف بطولية ، كل شيء كنا نتوقعه لكن ان تضرب قبة العباس
وأمام مرآى الكربلائيين ، ولذلك اشتعلت الغيرة في رؤوس الرجال ، وعلا
صوت النصرة ياحسيناه يشق عباب السماء ، فارجعنا نحن الشباب وبالتعاون
مع ابناء المخيم وباقي أطراف المدينة الجيش الوحشي رغم ضخامته ، إلى
منطقة التربية من جهة بيت المحافظ ورغم كل هذه
الشراسة
كان المقاتل الكربلائي في قمة الإنسانية ورهافة الحس ، ورقة المشاعر
وبارق مايملك الإنسان من طيبة وأخلاق لم يتخل عن المبادىء في كل
تفاصيل المواجهة ، لذلك نجد الشباب قد هبوا لنجدة السيد شمسي ضياء
الدين ليساعدوه في حمل أباه إلى الملجأ كونه رجل مقعد ، فحملوه وعربته
إلى الملجأ على الاذرع ، لاشك أن الحمل ثقيل والجيش يطوق كربلاء من كل
حدب وصوب وعند سيطرة الكفيل الحالية في باب بغداد ـ سقط أمامي شاب
يدعى السيد محمد لا اعرف اسمه الكامل استشهد عند مدرسة الحرية ، كان
القصف كثيفا فما استطعنا ان نصل اليه ، استفحل الموقف فأحراق دبابة او
دبابتين ماعاد ينفع ، لكن ابناء كربلاء رفعوا الرأس وتقدموا بمواجهة
الموت بشرف ، بعدما طوق الجيش كربلاء من جميع الجهات ، وكانت المواجهة
مستعرة عند باب بغداد قرب علوة الشروفي حيث حرقنا لهم مدرعة ، اصيبت
قدمي وحملوني الى المعالجة ، عند غرفة تجارة كربلاء، فاعتزلت حينها
المواجهة ، ليصبح رامي الفازة مصاب لايقدر على المشي، حملوني على عربة
معوقين واختبأت عائلتي مع مجموعة من العوائل في السرداب ، وحين
استيقظت من غفوة الجرح لك أجد أحدا من الشباب الجميع أسرهم الجيش وأنا
الوحيد الذي فلحوا في اخبائه ، وانتقلت بعدها إلى مرقد عون حاملا معي
اجازة مستشفى تم تزويرها بشكل دقيق ، العوائل التي جعلت من ضريح
الحسين ملاذا لها عانقت الشهاد اثر الرمي العشوائي للرمانات التي
اطلقها الجنود عبثا ، شهدت بعيني كيف ضربت كربلاء بالخردل في اكثر من
موقع لكن بقيت انتفاضة كربلاء هي الفخر والقوة ، ربما نستطيع الآن ان
نُقيّم هذا الفعل البطولي حسب منطوق المواجهات ، كان يطلق سراح الاسرى
دون التحري عن هوياتهم فكان فعلا فيهم من يحمل ذمة القصاص في دمه ،
وهذا يدل على عفوية الانتفاضة وعفوية مقاومتهم بحيث نجد ان القتال قد
استمر لمدة ثلاثة عشر يوما دون ان يشكل الكربلائييون قيادة حقيقية
للانتفاضة ويبقى الأمر معلقا في ورقة يمنحها السيد كاظم الهندي رحمه
الله ، فالحال كان جيش بلا تمويل ومقر المعسكر بيت صغير ولدينا شحة في
العتاد وشحة في الغذاء وفي الماء وليس لدينا اي دعم من احد ومن اي
مساندة خارجة ولادعم حتى لوكان معنويا ، لكن المقاتل الكربلائي كان
متيقنا ان قائده الحسين عليه السلام معه في كل خطوة والخطوة التي
يباركها الحسين مصير