روابي الانتفاضة الشعبانية ـ كربلاء ( 2 )

2021/02/28

رابية ثانية ... (الهواجس)
النظر باتجاه المعنى يقود الى العودة مرة أخرى إلى ميسان دون تحقيق أي شيء ، والعودة إلى ميسان يعني ضياع المجهود وضياع فرصة البحث عن إخوته .. فمن سيمنح جفنيه نعاسا كي يسرق من هذا ألليل أغماضة عين تبعد الحزن ؟ ... هي فرصة أن يلغي الإنسان صحوته طوعا ولم يبق أمامه سوى صحيب مقعده هذا المبحر في صحوته حد الدهشة , هذا الرجل ألذي باغته بثقافة عالية.. له عقل كبير ووثبة متمكنة ومنطق رصين ووطنية تدهش كل حضور .. هي زهوة هذا الشعب ..
عمقت الألفة امتدت بينهما حتى بدى الأمر كأن يعرفه قبل سنوات ...راح يتحدث عن ذكرياته يحكي له مثلا عن أول شجة رأس وعن أول يوم مدرسي وعن أول ابتسامة فتحت نوافذ الحياة وعن أول صفعة وسجن..الخشية الحقيقية التي تسكن قلبيهما هي الانتفاضة ، خشية أن تظهر مجرد مغامرة تنتهي بمأساة كبيرة وحينها ستضيف لهذا الشعب معاناة أكبر ..
:ـ ألم تكن هي الحلم الذي كان يراود الأمة منذ عقدين ؟
قال ....
:ـ الشعب الذي يعيش تجارب كبيرة كالتي عاشها العراق يؤمن كنتيجة بأن الحياة لا تتوقف
لكن عليك أن تدرك خطورة أي خطوة مرتبكة ، فإنها ستعطي ناتجا سلبيا وتصبح ثورة هذا الشعب وبالا عليه
:ـ هواجس ..مجرد هواجس .
:ـ .قد تكون ....هواجس واعية لأنها طموحة بأن تؤدى الانتفاضة بخطوات غير مرتبكة ..
:ـ أرى الارتباك هاجس خواف لابد _أولا_ من تجاوزه لنعرف قيمة الجرأة التي يقدم عليها الشعب ..ثق ستكون الانتفاضة نبراس كل نهضة تسعى لتكسر صنم عبوديتها ...
اضطر السائق للتوقف والنظر في الأمر ..الطريق مغلق والشوارع مكتظة بالناس
وإذا بصوت جهوري يصيح
:ـ انتفضت ميسان .. وإنقطع درب السابلة وتاه الطريق ..
دفع محمد جسده ليدخل قلب ألمشهد فرأى الناس شارعا يمتد إلى الأفق ... عويل دعاءات تحملها هوامش الخوف ... بينما هو يبحث عن صديقه ألذي غاب وسط الزحام وتذكر قوله
:ـ ألوطن محراب
ثم إستسلم لمقعده وتأمل بصمت لما يجري وإذا بصاحبه يعود بعد ساعة محملا بالفرح وهو يصيح
:ـ لاغريب فيهم ..
:ـ من ؟
:ـ أهل الانتفاضة وحملوني السلام إليك
:ـ هل ستبقى معهم ؟
:ـ أتمنى وجودك معي ...
ترك الصحيب فراغا كبيرا جعله يقرأ جميع أسئلة الصمت .. لماذا عجزنا عن التغيير كل هذه السنوات ؟
كيف لفرد أن يحتل شعبا بعراقة هذه الأمة ؟ صحيح... هو نفسه كان يقول أنا لست فرد أنا أمة .. نعم أمة حملت إرث الطغاة وصاغت من الجور برهانها ،عرش يعتاش على دماء المقهورين ...
&&&&
رابية ثالثة
( الغضب الميساني )
وعند مأذنة الفجر فتح الطريق ., وأصبح الدخول إلى ميسان أمرا ممكنا .. آه كيف اختفت بهذه السرعة ملامح الأمس المسالمة ..وكيف تحولت الوداعة الميسانية إلى شراسة قتال ... المنظر يتحدث عن بقايا قتال عنيف جرى لساعات قليلة .. عجلات كبيرة مسلحة شاهدها وهي تحترق ,حقول موت نبتت على أرصفة العمارة ..شجاعة موفقة باغتت الجيش المنهار وأنهت القتال لصالحها ...
لاأحد يعلم ما سيقوله التأريخ عن سطوة حزب عمّر عقودا زمانية كأدهى محتل وأشرس قاهر وإذا به يهرب عند أول صرخة ضيم .. تحاشا السائق الدخول إلى المرأب بسبب التظاهرة الصاخبة التي جمعت الأمهات للتظاهر ومقاتلة كل ظاهرة عسكرية في المدينة وهن يحملن الحجر حينها صاح السائق وهو يوجه تعليماته الى الركاب الذين حاولوا النزول من السيارة ..
:ـ لاأحد ينزل ...الأهالي ثائرون ... لا ينزل أحد في المرأب (الكراج ) ... سأتوجه فورا إلى الكوت ... كلما يشعر الفرد إن المحنة قد إنتهت فإذا به يواجه محنة أخرى أشد وأصعب ولم يكن المسير الى الكوت بهذه السهولة.. فقد تنوع الثقل المسيطر مناطقيا ، سيطرة للحزب وأخرى للانتفاضة .. صار على أحدهم أن يقف هاتفا لكل فريق بما يحب أن يسمع .. .. أي موقف هذا الذي يوصل الإنسان لهذه الدرجة من الضعة ..
:ـ التلون خذلان
:ـ ليكن فقد تعودناه وصار من العسير العيش دونه ... زغرودة لكل سيطرة بما تهوى من شعارات لننجوا ....
وعند سيطرة من السيطرات خانهم التخمين فهتفوا للإنتفاضة وإذا بها تحت سيطرة الحزبيين فرموا السيارة بوابل من رصاص
:ـ سيطرة ..
والتقت الرؤوس بالرؤوس تحت المقاعد ,عاش الاستسلام بكامل لياقته ..
:ـ حرام أن نعيش كل هذه المصائب دون أن نحسم الأمور يوما
:ـ ماذا يجني من يحمي الطغاة ؟
:ـ كيف للأنسان أن يبيع ثراءه بفتات موائد بخيلة
:ـ يارب نجنا مما نخاف ونحذر
:ـ التمرد على مثل هؤلاء الطغاة نصر لايحتاج إلى نتيجة ...
تناثرت مثل هذه الجمل لتلم اعتراضات الرؤوس المختبأة تحت المقاعد وهي تمجد الهروب الموفق من السائق الذي يستحق نوط شجاعة ومن النوع العسكري لهروبه المميز والذي جعله يتصرف كبطل استطاع انقاذ حياة اربعين شخص ويخرج بسيارة اثقبتها الندوب.. أين ما تبحث ستجد مأوى الرصاص والسباب والوعيد .. وأمام سيطرة أخرى كان الحال يختلف فالبحث كان يجري ضمن قائمة اسماء منتظمة ومن ثم يفتش الركاب جميعهم
:ـ من اين ؟
:ـ كربلاء
:ـ ملتقانا هناك إن شاء الله ..
الدعاء في حضرة الحسين عليه السلام أمانة ...
&&&&
رابية رابعة
( مفاتن الصمت )
اشار السائق باصبعه إلى الشارع الممتد أمامه وكأنه يريد أن يقول بأننا على مشارف النجاة،
فضاء أخرس ..مبهم عند مشارف الكوت ، كان الصمت يشيع مهابة كل شيء يدل بوضوح على ,ضخامة الاستعدادات الأمنية للسيطرة على أي بادرة من بوادر الانتفاضة ..
:ـ ماذا لو تحدت الكوت كل هذه الاحترازات وثارت ..؟...
لابد لهذه الانتفاضة أن تتسع جغرافيتها كي يكون تأثيرها أعم وترفع يد التمكن عن الجيش الذي عليه أن يحاصر كل مدينة تنتفض .. وعند وصولنا الكوت استفحل السؤال
:ـ هل ثمة ملامح للانتفاضة ؟
:ـ لااعتقد الأمور معدة للسيطرة تماما
همس السائق في أذني السعدي
:ـ الجوع يمنع التفكير تعال لنأكل أولا ثم نتناقش حول ما يدور
لا أحد بقى من الركاب سواه الجميع رحلوا ..لماذا بقى ..؟ ربما أراد أن يرد الجميل للسائق باستضافته على مائدة غذاء أو ربما هي استجابة لقلق صديقه السائق
:ـ لابأس ابق لنعرف الأمر
مفاتن الصمت أكثر إغراءً من الكلام .. أناس علمتهم الحرب أشياء كثيرة فصاروا فلاسفة العالم ... هم تعودوا الخوض في تأويلات انكسار مدمن فلا يريدون اليوم أن يفروا إلى موت ... ولهذا طلب السائق برهة للسؤال عن متغيرات الطريق
.:ـ السؤال ملاذ والعجلة كمين أبله
خذ ماشئت من الوقت مادام هو أعمى ...
كانت دار الاستراحة عبارة عن مقهى كبيرة تأوي تعب السائقين و تستثمر جوع المسافرين ولذا راح السائق يسأل القادمين من بغداد عن الحال .. شعر حينها إن ملامح صديقه السائق غير مستقرة وتعلن عن ذخيرة أخبار غير مطمئنة إلى أن أخبره
:ـ مفارز كثيرة وكبيرة عند مشارف بغداد تحتجز الجنود لتكوّن منهم وحدات عسكرية جديدة .. وهذا الجيش يعد لمواجهة الانتفاضة .. علينا التأني حتى لو اضطر الحال إلى البقاء في الكوت
:ـ اعتقد أن ميسان قبل الانتفاضة كانت أهدأ كثيرا من الكوت
:ـ الحال يختلف هنا فهي الأقرب إلى بغداد وسقوطها يعني سقوط بغداد وثقل الجيش المسحوب من الحرب هنا أثقل من العمارة ..
:ـ مرعبة سطوة المهزومين
:ـ إذن أنت تدرك أبعاد اللعبة
برهة صمت إختلى فيها كل إلى ذاته وإذا بصخب ودوي رصاص وهتافات ،هاهو الصمت يتحول إلى غضب شعبي عارم
:ـ انتفضت الكوت
:ـ لااعتقد
:ـ وكل هذا الضجيج والصخب ودوي الرصاص والهتافات الضاجة بالثبور
:ـ قلت لك إنها الكوت ... لو سقطت لسقطت بعدها بغداد .. والطواغيت ما زالوا يمتلكون القوة والسلطة
:ـ لاتنسى الطيران ممنوع
والجيش مشتت وعدته محروقة في طريق صفوان
:ـ قوات الحرس الجمهوري معدة لحماية الحكومة ... ولم تشترك في أي معركة أو حرب ... دعنا هنا ننتظر الأمر
ساد هدوء غريب في الجو العام لمشارف مدينة الكوت القريبة بعد برهة حيرة دخل أحدهم وهو يقول
:ـ انتفض الناس هناك ومن ثم تقاتلوا فيما بينهم وانتهى الزعيق....
غصت الحيرة بعلامات الاستفهام هل يعقل أن يزوغ الثوار حد التلاشي ؟... أم هي انتفاضة فعلا لكنها أُجهضت في قسر صموت ؟,, ولاشيء أمام عينيه تلحظها سوى كربلاء التي استحالت هاجسا يعتمر كل بقاع الارض .. كارثة أن نقبع بعيدا عن تفاعل المواقف ..
:ـ لاتذهب
:ـ أخشى من غفلة ترديني .. .. لابد أن أذهب
:ـ غير آمن هو الطريق .. السيطرات تمول تشكيلا عسكريا لمواجهة الانتفاضة ,,,
لم يكن من الحكمة البقاء وسط هذه الاجواء المرعبة
:ـ لابد أن أذهب كي لا أموت بعيدا عن كربلاء ..هل تعرف أن هذه المواقف قربت لي حقيقة مهمة
:ـ ماهي ؟
:ـ إن هناك علاقة مباشرة لهذه الانتفاضات بكينونة كربلاء ,بوجودها وكأنهم يثورون استجابة لندائها, .. كربلاء يا صديقي هي قائدة الثورات , لتبدأ الانتفاضة من أي محافظة كانت فهي من كربلاء ..
من جذرها المتمكن ....
يعود صاحبه ليطالبه بالتأني لتحقيق أطمئنان يعيد له المسافات بينما السيطرات التي زرعوها في جسد الطريق صارت هي الهاجس المؤذي .. الأنفاس محبوسة عندها..جنود هدهم التعب والارهاق ساروا على أقدامهم أياما كي يصلوا إلى بيوتهم سالمين .. هم يصطفون الآن تحت رحمة ضابط السيطرة مرعوبون ينظرون إليه وهو يتفرس في وجوههم
:ـ أنت أخرج
انت إصعد وعد إلى السيارة..
كان الرجل ينتقي الأعمار الفتية ويستثني كبار السن من مواليد الاحتياط القسري.
أخترنا لك
سوق السعادة

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة