من مذكرات شرطي مرور

2021/02/13

مع كل شارع لي حكاية، ولي مع تقاطعاته ألفة مهما كثُرت، ومتابعات مسيرة حياتيّة ابتدأت قبل ثلاثين سنة أو أكثر، وما زلت أعيش في ذاكرة كل شارع كشرطي مرور معروف على مستوى البلدة، الناس، السائقين، لا أحد في هذه المدينة يجهل المفوض المروري (جبريل حسن)، اشتهرت بين الناس بحَزمي وهدوئي وعدم مجاملتي و انصياعي الى توسلات البعض، وخاصة عند الحوادث المروريّة.

كنت أبني أُلفتي مع القانون قبل أن أبني أُلفتي مع الناس، ولا شيء عندي لمن يُخالف القانون مهما كانت مستويات معيشتهم أو اضرار ما تعرّضوا له إثر الحادث، ولذلك كان البعض يتهمني بقساوة القلب، وأنا الذي أحبّ كل شوارع المدينة، وخاصة تلك المزدحمة منها؛ كون هذا الحراك يخلق حضوراً وتوهجاً كبيراً لوجودي، ونشاط يبعد التثاؤب والملل، فحملت بعضاً من تكويناتها في رأسي عشقاً يُمثّل لي عوالمي الروحيّة حتى ظن البعض أنني أُعاني من أمراض نفسية.

أشعر أن أُلفتي ورشاقة وقوفي في الشوارع البهيّة قد تعرضت الى صدمة كبيرة اثر هذا الشارع الذي انتقلت اليه حديثاً، فهو يقع على مُفترق أربعة شوارع حادّة الانحراف، ولا تحتويه ساحة دائرية ولا أرصفة منتظمة، لذلك تشهد كثرة الحوادث التي تعتمر صدر هذا الطريق، وكأنه منعزل عن الحياة، فهو لا يحمل طراوة التعامل مع الناس، رغم انه وسط المدينة، أو ربما لأنني في اليوم الأول من خدمتي هنا ولم أتآلف مع الناس والمحلات ولا أصحاب السيارات بعد، فهو يعيش عزلة جفاف حاد لعدم وجود شرطي مرور متمرّس، إنني أؤمن أن لي هيبة كبيرة استطيع أن أكسب الناس وأجذب محبتهم.

وأما قضيّة كثّرة الحوادث فهي تحتاج الى مُعالجة حقيقيّة، اليوم كاد ينقضي دون أن يشهد الشارع أي حادث مروري، وهذا التفكير بعث الفرحة داخل روحي، لكن فجأة دوى صوت ارتطام سيارتين قوّض لي صرح فرحتي، ركضت الى الحادث لأقف على ما حدث وإذا بي أقف منذهلاً أُكفكف أدمعي..!

يا الهي، حين سمعت الزعيق لم أتمالك نفسي فبكيت، واذا بيَديَّ ترتجفان من شدّة الحزن، وقدماي ما عادا قادرتين على حمل جسدي، كان الحادث مروعاً جذب زحمة الناس اليه، جعلني الموقف حينها أبدو كهلاً، ويخيّل لي أن هذا الاصطدام حوّل العالم الى جمرة اشعلتها القلوب حسرة، وبين شجار السائقين وخشونة منطِقهم والصوت العالي صرخت فيهم: احترموا أنفسكم، دعوا القانون يقول كلمته، احترموا هيبة هذه التضحيات التي تكسر القلب، صرت أتفقد حيثيّات الموقف كشرطي مرور يؤدي واجبه اثناء الحوادث، أجوب عوالِم الحدث وتُنازعني المشاعر الى العريس، وهو ينظر الى عروسه ويمسح عن وجهها الدم الذي لطّخ بياض بدلة العرس المؤجرة من أحد الصالونات، وأسمع أوجاع المتصارخين ومواساة الناس.. قسم منهم يقول:ـ الحمد لله، والقسم الثاني من الناس يكتفي بأن ينادي:ـ سلامات سلامات، ويتجمّع بعض منهم عند سيارة العرس والبعض الآخر يبكي من في السيارة الثانية، والعريس يتأكد من سلامة عروسه، وعينه شابحة الى السيارة الأخرى التي ألهبت مشاعره، شاب في مقتبل العمر بنى حياته أملاً على أمل ليصل الى ذروة هذا اللقاء، العرس، وكأني تذكرت لحظتها كيف استطعت أن أصل لمُنية القلب، كم عانيت وكم صابرت وتصابرت، ولحظتها تذهب العين صوب السيارة الأخرى التي أشعلت القلب شجوناً وألماً، فالنظر الى السيارة الأخرى أكثر وجعاً للإنسان، صرت أشُمّ مشاعري في الطرفين هنا الأمل حين يستقبل الحياة، وهناك الأمل حين يودّع الحياة متوجاً بهامة جبل، هذا الشاب المجبول بالحياة وذاك الشاب الآخر المجبول بالحنين والأنين والهيبة والوقار، يخطر لي أن أذهب إليّه، أن أُنهضه، أن أُقبّل هامتي فيه، كم من الأحلام يحملها في جعبته هذا الحاضر المُلتهب، وكم من الأحلام فارقها الثاني، وكم وديعة تركها للتأريخ، صرت أبعد الناس وأُفتتّ زحامهم، والرجل يكره هذه الفرجة، تغضبه العيون المتلصصة بشغف ومحبة لنجاتهم وبحسرة وألم لمعاناة السيارة الأخرى.

من الطبيعي ان تكون الهواجس في بعض الأحيان لعينة مما تجعل العريس في ضيق من هذه النظرات، أما أنا أنظر للموضوع من زاوية أخرى، لماذا تجمّعَ البعض عند سيارة العريس، بينما راح البعض الاخر يتجمع عند سيارة الشهيد..؟، ولهذا أجد ان استجابة الناس لها جملة من المفاهيم التي ينتمي الإنسان لها عبر سلوكه بمؤثرات نفسيّة، أراهم ينظرون عبر أحاسيس الرغبة والرهبة الى ما يُشكّل لديهم البهجة وينظرون صوب ما يشكل لهم الحزن والألم.

من كان يدري أن أعيش لحظة المواجهة مع كل تاريخي في هذا المشهد..! لكنه من المؤكد سيبقى في الذاكرة، لم يعلمني أحد كيف أُعايش اللحظة بنظرة مستقبلية، كيف أنظر إليه كواقع حياتيّ يحفز الناس الى المعنيين العرس - الغرس والشهادة المُدافعة عن الحياة، وكل ما في الكون مصير، هي لحظات وستأتي مفارز الإنقاذ والمرور والإسعاف وينتهي المشهد، لكنه من المؤكد سيبقى في الذاكرة، مشهد يجمع الموت بالحياة، لم أرضَ عن تفكيري لحظة، وضعت الموت كمعادل عن الشهادة، ولذلك كان عليّ أن أقول لحظة يجمع الحياة بالحياة، ولهذا أسميهما حياة الأمل وحياة الخلود.

والملاحظ أن المهابة لم تُفارق الموقفين، أشياء أثارت في دواخلي لواعج يقظة عند ابتهالات ولولة بل حشرجة القلوب، صرت أعتقد أن المسألة قريبة جداً بين مساحة الولادة الغرس والعرس والشهادة لقرب المسافة بين السيارتين، حيث هما الآن في تلاحم عجيب، تداخل لحد العنف، وتعانق لحد الضرر.

انزاح مكان العروس خجلاً الى نهاية المقعد، تكورت واضعة رأسها بين حضنها؛ خجلاً كي لا يرى الناس انسياح المكياج، وتمازج الألوان في منظر مشوّه، هي الألوان بما تملك من جمال جذاب ينتهي بمجرد تعرّق الجسد، أو ربما لا تريد أن يرى الناس تبدّل البهجة الى رعب بدلاً من رؤية الوجه النوراني الى قمر منطفئ الأضواء.

فجلست منكمشة على روحها في منظر مؤثر، وهناك النعش مال أيضاً اثر عنف الاصطدام، فارتفعت أيادي الناس طوعاً لتعدل النعش خشية سقوط الشهيد، نهض سائق السيارة بحزم ليتأكد من سلامة وضعها ومن قوة الحبال، ويتأكد من وثاق التابوت، جميع الناس الذين تجمهروا لرؤية الحادث، يرفعون أياديهم ليلمسوا التابوت بحركة لها خشوع القيامة، ويقرؤون سورة الفاتحة، بل يطلب بعضهم إعادة سورة الفاتحة، ربما كان الحادث مرتكز حظ للشهيد ليزيّد عدد المُشيعيّن لجنازته، لا أدري لِمَ أفرح وأنا أرى أصحاب السيارات وجميع الركاب وهم يرفعون أيديهم لقراءة سورة الفاتحة، ثم ينظرون لسيارة العريس مع طقطقة شفاه تعرج على عوالم الحزن والأسف..؟

لأول مرة في حياتي، صرت أشعر بتحكم دخوالي الى أعماق الناس، والقدرة على الولوج الى شخصية العريس عبر نبضات مشحونة بكهربائية الأُلفة والتآلف، الحادث والزحام ونوعية الصِدام الحاصل بين سيارة العرس وسيارة الشهيد، جعلتني مضطرباً ذهنياً، وأشكو من تهيّج حاد من الشعور، فرحت بما امتلك ولا أدري أيضاً كيف أصبحت أستطيع أن أدخل بسهولة الى تفكير ووجدان كل واحد منهم، أستطيع الآن أن أتمثل جميع ما يملك في ذاكرته من آمال وأحلام ومشاغل وأحزان.

استيقظ الهوى عند صدر الحدائق حين كان يأخذها في نزهة، يتلمس ذاك الدفء في همس كلامها، والأمل في هذا الحنين الدافق، كم واعدها أن يقيم لها زفة عرس ليس في العالم أجمل منها: (صدقيني سأُقيّم لكِ زفة عرس تشهد لها المدينة كحلم من أحلامها وفي أعماق قلبي سأبني لك بيتاً من الوئام، واشهد البهجة بأنها لن تغيب في حضرة هذا الزهو) وعلى شفة كل لقاء كانت تدور أحاديث الخطوبة والعرس، صلة وثيقة مع الأحلام تصل به الى أن ينهض بأعباء الحياة، يصنع الحياة، ويجلس الجميع في جلسة تقرب القلوب والعوائل الى بعض، وتصبح الخطوبة جسراً يمتد الى حلم اللقاء الأكبر والعرس يستطيل لعناق اللقاء.

بين صمت هذا الأنين أنهض لأحلام هذه العروس التي همست أعشاب آمالها بالنضوج، كل الأحلام كانت تتكامل عبر لقاءات يبزغ منها الفجر حنيناً:ـ (أشعر بحنو الحياة حين كنت انتظر الموعد الذي سألتقيه، كل الأحلام تصنع صورة الصدق في أحداق لقاء، صرت لا أشعر بالحياة دونه، لا أستطيع أن اتنفس هواء ليس فيه، كنا نغرق في بحر من الصمت والأمل، حتى كنا نشعر أحياناً بأن الكلام لا قيمة له أمام قيامة الصمت اللاهب بالشوق والحياء النبيل، نزرع للعالم شجر الزهوّ والشموخ، نجوب الشوارع وأبواق العربات تملأ الدنيا بالبهجة، تشعرنا بيوم عرسنا نمشي ونمشي ونقف أحيانا، يقول لي:ـ هل تعرفين اننا لسنا العاشقين الوحيدين هنا، فحتى الشوارع تعشق بعضها بحثاً عن الأمل..!

وفي أحد اللقاءات، كدنا نتعرض لحادث مروري، اصطدام قريب زحفت إحدى العربات فكادت ترتطم بنا، وقع هو أرضاً فحملته أهداب الدعاء بيقين النجاة، سقط هو على الأرض مددت يدي له ورفعته، قال مستعرضاً قوته: أتمنى لو كنت الآن وحدي لعلمته فنون القتال، صحت به: يا ولد، أنا لا أحب الحروب، أُريدك لي مأوى السعادة والأمان لقلبي، أريد أن أنطلق بك الى حيث مواويل الفرح، وزغاريد الفتيات المنطلقة من عمق الحناجر، فكان العرس وكان الفرح الغامر واللقاء).

وإذا بأحدهم يسحبني من ياقة ظلي، واذا به السائق يصيح:ـ أبا إسماعيل، أبا إسماعيل، أرجوك اتصل بمفرزة المرور, اتصل بسيارة الإسعاف فأنا متألم، أعتقد أن كسراً أصاب قدمي, ما ذنبي أنا اذا كان سائق العرس منطلقاً بسرعة جنونية، والتفت نحو السائق:ـ قل لي كم كانت سرعة مسيرك؟ أجاب السائق الثاني:ـ أنت لا تعرف السياقة.. فجأة انحدرت على الجانب الاخر من الطريق ما الذي أتى بك اليّ, وعاد زعيق الأصوات ثانية وارتفعت لغة الاتهامات، وعلى معبر الطريق الثاني انعزل بعض الشباب على الرصيف البعيد يريدون أن يحتفلوا ببهجة هذا العرس، صحت بهم يجب أن تحترموا هيبة الشهيد، أجابني أحد الشباب:ـ هو استشهد من أجل أن نحتفي نحن بأعراسنا..!

نظرت اليه ربما أفحمني هذا الفتى المثقف, أجبته:ـ وهذا الأمر يحتاج منّا الى رد الجميل، الى احترام هذا المقام السامي، مقام الشهادة، أن نخشع احتراماً له هو دليل وفاء لتضحياتهم، اقتنع الجميع وتركوا آلات التطبيل، وعادوا الى سياراتهم.

قال سائق سيارة الشهيد:ـ اغلب المصائب تأتي من ضجيج الأعراس والمحتفلين به الذي يُشتت انتباه السائق، ولهذا تقع الكثير من الحوادث في زفات العرس، ثم عاد لي ثانية.. أرجوك اتصل بالمفارز كي تأتي لتنهي القضية فهي واضحة وضوح الشمس المخطط سيقع على سائق زفة العرس، بينما اعترض السائق الثاني وهو يتوسل بي:ـ انظر يا أبا إسماعيل انظر كيف مال هو عن الطريق بصورة غير متوقعة..؟

أصاب الشارع دفقاً من الأسى لحادث مؤلم معنوياً، وأما الخسائر فهي أضرار في السيارات وسلامات في الركاب، رغم اننا لا نعرف مقدار الضرر الذي أصاب العروس، خجلها يمنعها من الكلام، بقع الدم المنثورة على ثوبها الأبيض وعلى جنبات هذا الضجيج هناك حدوث يعتمر الروح كلما انظر إليه الى هذا الشهيد: اوووه.. كم هي عظيمة منزلة الشهداء، أكون سعيداً حين أحاول التخاطر مع ذاكرة هذا الشهيد، والحمد لله دخلت بسهولة الى حياة هذا الرجل الذي كان على قيد الرحيل وهو يعد أمه بأشياء ليرتضيها:ــ (حسناً أمي اختاري من تريدين لي زوجة, وأنا في الإجازة القادمة سأذهب معك الى أهلها).

تنساح الكثير من العواطف المؤجلة في ذات هذا الوعي، ما أجمل أن يكون الوضع هو العشق والأمنيات..! هؤلاء هم الناس الذين أبدعوا في الحياة، ووقفوا بوجه العواصف أكبر من ثرثرة المتفلسفين في مقاهي العبث, الحلم قضية إنسانية صاغ منها هؤلاء الشهداء عوالم ادراك، وعلى امتداد مسارات الحياة سنجد مثل أولئك الذين يحملون أرواحهم منارات محبة.

الذاهبون الى غدِهم يدركون معنى الفرح، لذلك مولوا حيطان الصدّ بما يمتلكون من همم ليخوضوا المواجهة التي تبقي لهذه الافراح هيبتها، زغرودة العرس كأزيز الرصاص يثقب قلوب أعداء الحياة، الشهادة تعني الفوز الذي هو ربيع الأمنيات، رزموا حقائب السنوات وساروا على هدى أعمارهم الى المخاض، وهذا الشهيد الذي حملته على اطراف دمعتي وتوغلت في رأسه حد صرت احمل مشاعره، وعرفت بم يفكر وحتى صمته المهول قرأت فيه كل ثقافات الوعي، وأنا افكر ما الذي أستطيع أن أُقدّمه كشرطي مرور، المفاجأة التي أذهلتني أن الشهيد ناداني، الشهيد ناداني لا كما ينادي الغرباء بل ناداني كصديق:ـ جبريل.. أرجوك تصرف بالموقف المناسب يا جبريل، أين حنكتي يا الهي..؟!! هذا الشهيد يُريدني أن أتصرف بما يليق بتاريخي الوظيفي، بهيبتي التي حققتها بوقار وسط المدينة، أحدق في الشارع: ما الذي تريده؟ أجابني:ــ المخطط المروري الذي تنتظره هو من اختصاص السيارات، فلماذا تبقي العروسين رهن التخطيط؟ لماذا لا تعد لهم سيارة أخرى تنقلهم الى الفندق وينتهي الموضوع؟ ليعيشا سعادة هذا اليوم بفرح وأمان، فما حدث يجب أن لا يؤثر على فرحتهما، قلت:ـ أنا مثلك استغربت الأمر، حاولت نقلهما الى سيارة أخرى كي أنهي حالة الفرجة والزحام وليصبح الشارع آمناً، وعملت ذلك مخافة أن يوشم يومي الأول في هذا الشارع بأكثر من ذلك الحادث وتلك مصيبة.

دعني أروي لك الحكاية، يقول الحاج صابر سائق سيارة العرس:ـ أردت أن أحمل سنوات العمر في هذا اليوم المكلل بالبهجة، أن أرتقي كامل فرحتي نعيماً الى حيث يرفل الفرح، قررت أن أزف ابني وابنة أخي في سيارتي، أنا السائق فعمل الأولاد على تزويق سيارتي على أحسن ما يرام، رأيت حينها ان تخلية العروسين الى الفندق في سيارة اخرى لا تجدي نفعاً فسيبقى البال عند الأب، وأنا لاحظت العريس منشغلاً تماماً بحالة أبيه، أما العروس كانت منشغلة بك أنت، بعد برهة صمت قال:ـ جبريل لِمَ منعت أهازيج الصبية المحتفيين بعريسهم؟ لِمَ منعتهم أهازيجهم؟، لماذا سكت هذا الصوت النابض في زغاريد النسوة؟ كنت أرى في أهازيجهم زفة عرسي المؤجلة، رأيت محفل زفافي فيهم، فاستدعيهم يا جبريل ليفرحوا قريباً عني، ليزفوا عريسهم وجنازتي.

قلت مع نفسي:ــ والله انها فكرة جميلة أن يحتفوا فرحاً بجنازة الشهيد، لكنها فكرة مجنونة ومرفوضة من قبل الناس؛ لأن لا أحد سيقرأ فيها هذا الطابع التبجّيلي، وأن الجميع سيرى هذه الحالة تجاوزاً على وقار الشهادة، تلاطمت الأفكار في رأسي حتى صرت لا أعرف الصواب من الفكرتين، لكن هذا الصراع انتهى تماما حين صرخ الشهيد بصوتي:ــ شباب تعالوا اعزفوا أناشيدكم للشهيد، وتجمع الشباب قرب الجنازة وراحوا يهزجون له بأجمل الأنغام، واذا باعتراض شديد يهب علينا من قبل الجميع، ترجل أحد السواق في وسط الشارع وهو يصرخ:ـ أبا إسماعيل، كيف ترضى ذلك؟ هذه جنازة شهيد يا أخي، أجبته:ـ ماذا أفعل أنا اذا كان هو يريد ذلك، استهجن جنوني لحظتها وامتدح زينة العقل وذهب..! التفت الى الشهيد:ـ ها أغاتي، يرضيك ما فعلت بي، ها هم الناس يتهمونني بالجنون؟!

ضحك حينها لي وقال:ـ لأنك أنت الوحيد الذي تعرف معنى الهيبة، الهيبة أن تكون الشهادة جزء لا يتجزأ من حياتنا نحتفي بها كما نحتفي بزهونا، انظر لهذه العروس المدمعة العينين لأجلي يصعب عليها أن أكون بعيداً عن مثواي، تلك حكمة أن تكون لكل الأشياء مثوى، جبريل... سلم لي عليها قل لها:ــ جارك الشهيد يبلغك السلام، ويطلب منك أن تكفّي عن البكاء فالبكاء يؤلم الشهداء؛ لأنهم ليسوا موتى، هل تعرفين، هكذا قل لها:ــ استشهدنا كي لا تمر دمعة غريبة في عين بناتنا.

أنا أنظر الى الموضوع من جهة أخرى، حيث توحد المصير بنا الآن، وأصبحنا جميعنا بأعراسنا بأوجاعنا برحيل الشهداء تحت مصير واحد ننتظر مفرزة المرور .

النساء المدعوات ينظرّن إليّ وكأني انا الرجل المسؤول عن هذا التأخير الحاصل, مدّت رأسها امرأة وبلهجة عصبية:ـ أبا إسماعيل تأخرنا كثيراً خطية، صرت أُفكّر وأسأل نفسي، لماذا تخليت عن الصفارة؟ كم كان لها حضور الآن للسيطرة على الموقف؟ قررت أن أتصل بالمفرزة عبر جهاز الاتصال، اسمع النقيب هاشم ينادي:ـ مفوض جبريل سيطر على الموقف وانتظر، مفرزة المرور هي الأخرى تعرضت الى حادث مروري، أجبت: نعم سيدي وأنا أبتلع ريقي اثر المفاجأة، ماذا لو عرفوا الجميع الآن ان انتظارهم سيطول..؟ يبدو أني استطيع أن اقرأ ما يدور في رأس العروس المسكينة، فهي متأثرة كون الحادث مع سيارة الشهيد، كان الأمر يختلف عندها لو كان الصدام مع سيارة أخرى، فهي ترى من الضروري انهاء جميع الإجراءات والإسراع بدفن الميت، فإكرامه الحقيقي هو الدفن.

قلت مع نفسي: وهل إكرام العرس أن نبقيه حبيس الشارع، توسلوا بالعريس لنقل الزفّة الى سيارة أخرى، لكنه رفض أن يذهب دون أن يطمئن تماماً على أبيه.. بدأت اشعر فعلا بمسؤوليتي اتجاه الشهيد، لابد من عمل فوري ينقذ الموقف، دخلت اعماقه:ـ هل تعلم يا صديقي ان مفرزة المرور قد تعرضت هي الأخرى الى حادث، وربما يطول البقاء في الشارع وانا خطرت لي فكرة، قال مستفسراً: ما هي..؟ قلت: ما رأيك لو اخرجك من التابوت وانقلك بسيارتي الى المقبرة؟ ضحك حينها صديقي وقال:- والله فكرة جيدة أن أذهب الى مقبرتي دون تابوت، هات سيارتك جبريل، لحظات سأجلب السيارة وأفك حبال التابوت.. ونذهب بعيداً عن هذه الإجراءات الروتينية التي لا دخل لك بها، وفعلاً أتيت بسيارتي واتجهت الى التابوت، فتحت الحبل الأول، صاح بي الناس ماذا تفعل..؟! نهض السائق مرعوباً ليبعدني عن الحبل، وإذا الجميع يصرخون:ـ جاءت سيارة المفرزة.

أخترنا لك
قالت سامراء..

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة