لم يفارق ذهني يوما صوت عمر بن سعد:ـ انزلوا اليه اريحوه، ويخاطب سنان:ـ حز رأسه كي نستريح.. خلصنا، فلا احتمل الموقف واظل اصرخ: لبيك يا حسين... يعلو صوت النصرة في أوج هذا اليقين/ من كل جيل حضور/ ومن كل مدى راية لحبيب، وإذا بالجند يمنعني التسلل اليه، ويسألوني: ماذا تفعل هنا؟ قلت لهم:ـ جئت لأنصر الحسين(عليه السلام) لقد رأيت السماء على حافة نداء، والنصرة شلال ينهمر عبر كل جيل، وها انا في ظهيرته المذبوحة الوريد، سيفي روحي وهذا الجسد المضني منذ فجر الطفوف، جئت اليه لأقف بين يديه علني اصد عنه سهما أو اثلم في جسدي حدة سيف.
جراح تصحو عند كل نزف غيور، يقولون لي:ـ الى اين تريد.. ألا ترى الناس باسطة سيوفهم تذبح كل نفس حسيني.. اذهب يا اخي وانجُ بنفسك..؟!
جئته ومعي كربلاء بكل ما فيها من دعاء وقباب ومنائر ومحاريب صلاة، هذا هو الحال في كل يوم/ حين اضع رأسي فوق وسادتي تلتف جمجتي... بذكراها انهض.. ادخلها اسير بأرض الواقعة.. اتفقد التلال، اسمع صهيل الخيول وصريخ الاطفال عطاشى يلوذون بضمير الماء، ادور حول الخيام اذوب عند اطراف هذا الدوي الندي حنينا من صلابة الدمع والأنين، يصدني الجند:ـ انزل يا عم لا نريد القتال ان يمتد الى قرون اخرى..!
فأبعد لهب الغد عنا، وارحل الى زمانك مطمئنا، واجعل من هذا اليوم ذكرى تحتفي بها كل عام، اجبتهم:ـ واقعة الطف ليست متحفا يزار، هي مواقد نور وضمير، وعاشوراء سبيل عز لاينضب، هي واقعة تتجدد عبر كل جيل..
ابتعدوا عني؛ لأكون وسط عزيمة الرجال شيبا وشبابا لأعيش النصرة في ربيعها المزدهي بالخير ما دمت على مقربة منه، سأجتاز صهيل الخيل وصليل السيوف، رمال تثير غبرة الدهور لتحجب الرؤيا عن كل جيل، اركض صوب كل جهة، واذا بي اراه، وارى ابن سعد يصرخ انزلوا اليه اريحوه.. ينتبه لوجودي فيسأل: من هذا الغريب الذي جاء يعبث هنا؟
انزل اليه وارحنا يا خولي، مالك ترتعد.. فت الله في عضدك.. انزل اليه يا شمر ولا تنظر صوب هذا المجنون، النصرة عندهم ما هي إلا كلام يطلقونه في جوف ريح، انزلوا اليه اريحونا واريحوه.
أجبت:ـ النصرة ليست كلمة عابرة بل هي روح تعمرّ باليقين، فصاح بربعه كي يبعد روحه عني:ـ أينك يا شبث، انزل وحز الرأس، ولا يلهيك عن دينك هذ المعتوه.. كل سلاحه كلام، والكلام لسان مجرد لسان..
صرخت بوجهه:ـ النصرة يا ابن سعد قلب وروح.. ومن اجل هذه النصرة صرنا نُذبح ونُقتل ونهجر، وباسم دينك الذي تريد ان تحز له رأس الحسين يا ابن سعد، النصرة اكبر من معناك وهي بالايمان اسمى، اذا هبت النصرة ولاء يا ابن سعد، وتجمعت التواريخ عند منحدر الوجع... هنا... هنا سيقف التأريخ ويقول لك: ارفع سيفك عن رقاب الاولياء وعند ميادين الامنيات سنلتقي لدينا النصرة وحلم الشفاعة ولديك حلم ملك الري المريض..
خذلتم الحسين واجتمعتم عليه لتقتلوه، فما الذي تريدونه بعد؟
يجيبني ابن سعد:ـ نحتاج ان ننكأ جرح النصرة في كل حين، من اتى بك لتعبر كل التواريخ.. أليست هي النصرة..؟
اقول له:ـ اما زلت تشعر بالانكسار يا ابن سعد؟
يجيبني عمر بن سعد:ـ نعم نحتاج الى فعل اكبر من القتل؛ كي نروي الغليل، ينزل اليه سنان ابن انس يحاول حز الرأس، لكنه يعجز يقف مخذولا وهو ينظر صوب وجه الحسين(عليه السلام) بذهول، ويقول لشبث:ـ لِمَ انت خائف يا شبث تقدم معي.
يجيبه شبث بن ربعي:ـ نعم انا خائف، ومتى كان الخوف عيبا؟ ما ان اردت ان اذبحه حتى رأيت عينيه.. عينيه يا شمر... اتعرف ما معنى ان يفتح الحسين عينيه؟ انا رأيت في عينيه عيني رسول الله(ص)، اتعرف يا شمر ما معنى ان يحمل بين عينيه عين النبي محمد.. يعني هو الدين والاسلام، رأيت في وجهه نصرا لم نألفه، فأيقنت أنّا نعيش متاهات الخطى ويزداد الخوف والقلق.
تبدأ عملية الهجوم على الجسد الحسيني.. ادفع الجند وأرمي بجسدي على الرأس، أعانق الجسد وانا أنادي: لبيك يا حسين.. لبيك.. واذا بي ارى نفسي امام الجناة، تغيرت ملابسهم واسلحتهم، وظهر عمر بن سعد، شبث بن ربعي، سنان، خولي، يلبسون ملابس الدواعش، ويحملون البنادق، يضربونني بأعقاب البنادق ويسألوني ثانية: من انت؟
:ـ انا منذ ابتداء القتل جئت على عرش الدموع، اقف لنصرة كل صبح ندي كي لا يُذبح ثانية حسين..