دبابيس.. وتقنية التهكم الفاعلة

2013/01/09


علي حسين الخباز

 يحتل المقال التهكمي الساخر مجالاً واسعاً في الصحافة، وهو أسلوب متمكن يركز دائماً على المفارقات التي يتم تشخيصها بالمضحكة، ولو نتأمل مثلاً بعض ما ورد في فقرات (دبابيس) المنشورة في صدى الروضتين، كمقال ثابت يتحرك باتجاهات لاذعة، فنقرأ تحت شعار (نحو عراق أنحف): ونظراً للتضخم الحاصل في مفردات العزيزة تموينية، تقرر إخضاعها لعمليات ترشيق وترشيد حفاظاً على صحة وسلامة المواطن. وفي فقرة أخرى نجد أن إقرار مشروع إنشاء جسور معلقة في مركز المدينة القديمة والجديدة وما بينهما، وذلك لتقليل الإزدحامات التي تحصل أيام الأمطار. أو لنقف عند هذه الفقرة المتهكمة: بعد فشل أغلب سلسلة أفلام الأكشن (الأجزاء)، قررت شركات صناعة الأفلام الإستعانة بالكوادر المتخصصة بإعمار مدينتنا العزيزة؛ وذلك إثر نجاح الأجزاء الثانية والثالثة...الخ.

 والمقال التهكمي هو مقال دلالي يعتمد على النظير الموضوعي، فيتم إزاحة الواقع ليضع الكاتب هذا النظير وكأنه هو الموضوع، ليترك مساحة تأويلية واسعة للتلقي، فنقرأ: بعد زيادة المطبّات الإصطناعية في شوراعنا، تقرر نصب ورش تبديل دبلات وفتح (صدر سيارات) عند كل مطب إصطناعي خدمة للصالح العام. أو خبر منح أصحاب الدراجات الهوائية والنارية إجازة سوق خصوصي، وأصحاب (الستوتات) إجازة عمومي، وبشرط أن يجتاز صاحب الطلب الإختبار المخصص لذلك، وهو السير في شوارع حي العباس، وحي الأنصار، وحي الشهداء، دون السقوط في الحفر والبحيرات..!

وأعتقد أن الأمر لا يحتاج الى تفسير أو تعريف بما كتب من هذه الدبابيس، رغم كل هذه المفارقات التي تشخص على أنها مضحكة تجد فيها الكثير من الأسى والألم، وتحسس بمعنى أن تكون الكوميديا سوداء تضحك وتبكي، كتب رضوان السلامي في إحدى (قفشاته): توفي مواطن عراقي بسيط (فقير) إثر نوبة قلبية جاءته بسبب تصريحات مسؤول، فتولت وزاراتنا المراسيم وكالتالي: الدفن من نصيب وزارة النفط، الداخلية تولت التشييع، التجارة تولت اقامة المأتم، أما كلمة العزاء فكانت بلا منازع. فلنتأمل عمق هذه المأساة التي تعرض بإمكانية التهكم، فنجده يتناول مسألة اشغال البناية لعدد من المدارس، فهو يرى أن بناية المدرسة تعمل الصبح إعدادية، والعصر روضة، وفي الليل (سنتر مول) وأحيانا شقق سكنية حسب الحاجة وعند الطلب.

او تراه يرسم تشكيلة شعبية، معتبراً أنها هي الفئة التي ترد الزيارات، وبهذا يفتح الدرب أمام أكثر من تأويل اجتماعي سياسي، ففئة الزائرين التي أشاعها السلامي تتكون من: 25% متقاعدين ومن مختلف الفئات، 35% مهجرين من مختلف المحافظات، 35% عوائل أيتام لم يستلموا مخصصات، 5% موظفين لم يستلموا إيفادات.

 هذا الاسلوب لا يكتب من أجل إضحاك المتلقي، بل له مهام اخرى في عملية التدوين لو عرفنا أولا كيف تتكون قابلية التهكم لأدركنا ماهية الكتابة، فهو أسلوب فطري غير مقصود نشأته أو خلقه لأجل التدوين، بل هو في روح الكاتب نفسه.

 وبعد هذا نذهب الى تقنية الكتابة، فالتهكم أسلوب له القدرة على جذب ذهنية التلقي حول مرتكز الاشتغال، وخاصة عندما تكون جميع دبابيس السلامي مفهومة القصد، كتهكمه بالحركة العمرانية في كربلاء: (المجمعات العملاقة ذات الطوابق العشر المزمع إنشاؤها مطلع القرن المقبل، والتي خصصت للزائرين والوافدين الى مدينة كربلاء المقدسة في موسم الزيارات المخصوصة). أو لنتذاكر في موضوعة الاستيراد المنفلت، فالسلامي يقف عند هذه النقطة متهكماً: (مستوردو المواد الغذائية (اللحوم والدواجن) قرروا رفع أسعارها دعماً للمحرومين... علماً أن أغلب تلك المواد لا تخضع للرقابة الشرعية.

فما يحتاجه الكاتب من الأسلوب التهكمي هو الاستحواذ على ذهنية متلقيه، ودفعه باتجاه عملية المشاركة الفاعلة، إذ كتب: (دعماً للسلم، وحفاظاً على البيئة، إلغاء قرار إبادة الكلاب السائبة، واستبداله بقرار جلب كلاب مستوردة، وإدخال البقية دورات تثقيفية. وتقرر إلغاء عمليات المعالجة الكيمياوية للأشجار، وتوزيع المبيدات على دول الجوار دعماً للوحدة والحوار. واستبدال العبارات الترحيبية الحارة بالزائرين والوافدين الى مدينة الإمام الحسين (ع): (أهلاً وسهلاً.. مرحبا بالزائرين الكرام، الــــــــــ... في خدمة الشعب، من رخصتك، بلا زحمة عليك...)، بعبارات أكثر سخونة (منين جاي - وين رايح – ارجع...). والكتابة التهكمية تمتلك عنصر التشويق والإمتاع، ويعالج القضية معالجة جادة عميقة، وهذا التهكم هو التزام مبدئي واجتماعي ووطني وأخلاقي: (مع أول قطرة مطر ترى الفيضانات وانسداد الطرق الرئيسية والفرعية.. والبدء بتنفيذ أكبر مترو أنفاق وسط مدينتنا الحبيبة، يشتمل هذا المشروع الذي يعد الأول من نوعه في التأريخ). أو نقرأ عن استحداث خطوط نقل برية جديدة، ومن المحتمل أن يتم تنويعها وفق الجدول أدناه: بعيران ثمانية حصان (تَجميع تايوان) 6 راكب، خيول 12 سلندر (أصلي) 3 راكب سياحي، ومن المقرر أن يتم صرف عوائد هذا المشروع على فقراء دول الجوار.

 والتهكمية أسلوب لا يختص بنوع من جنس أدبي دون غيره، ومن الممكن أن يكتب التهكمي في القصة والمسرحية وحتى الخبر، وفي مجال استثمار الشكل الخبري.

ونقرأ (تظاهرة سلمية لتلاميذ رياض الأطفال الحكومية والأهلية في مدينتنا العزيزة تضامناً مع تلاميذ رياض الأطفال في أوربا الذين يعانون من نقص حاد في وجبات الطعام). وخبر إعادة بناء المراكز الصحية في مدينتنا الحبيبة، وهذا الأمر أثار ارتياحاً كبيراً جداً في نفوس الناس، لكن الأمر الأكثر ارتياحاً هو عدم اكتمالها لحدّ الآن، وهي مازالت عبارة عن هياكل، فمتى ينتهي المقاولون؟ الله العالم. أو نقرأ خبر اكتشاف مدينة أثرية عملاقة يعود عمرها لأكثر من (حملتي إعمار؛ واحدة ماء، والثانية مجاري، والمقاول شارد).

 وتقوم نصوص دبابيس على السخرية أساساً؛ كونه يحمل نقيض الموضوع ليعبر عن اللامعقول، أشياء تؤول حجم الاشكال المقصود، بل يعبر عن رؤية خاصة، مثل رؤيته لاعتصام كبير لسائقي باصات النقل العام ذات الطابقين في مدينتنا الحبيبة؛ وذلك بسبب القطارات السريعة والحديثة جداً التي دخلت للخدمة مؤخراً.. والأسواق المركزية في مدينتنا العزيزة تقرر توزيع ثلاجات ومجمدات عملاقة (تصلح للنوم) لا تعمل على الطاقة الكهربائية.

وكتب عن موضوعة إلغاء المشاريع القديمة والبدء بحملة جديدة، وذلك لإكتشاف خلل في نوع الحصو المستخدم بحدل الأرض. أو خبر تقليص أعمار المتقدمين للترشيح في المناصب الخاصة بالجامعات العلمية والتكنولوجية، ليصل معدل الأعمار الى 6 سنوات.

 ويعد المقال الساخر من المقالات الغرضية التي تسعى لمقصد حقيقي قد يعلن عنه أو يواري معناه متيقناً من وضوحه، مثل: خبر شراء منظومات التحلية التي اكتشف مؤخراً أنها تعمل على (الحصو). أو خبر التظاهرة التي كانت بسبب العدس المستورد والذي لم يعد يتحمل التخزين، حيث كان من المفروض أن يُوزع في رمضان الأسبق، لكن سوء الأحوال الإنتخابية حالت دون ذلك. ولنقرأ عن الاعلان الذي تقدم به عمود دبابيس: (نظراً للجودة العالمية التي يتمتع بها (دهن الوجبة) قررت العوائل المستفيدة والجهات المعنية توسيع دائرة المنفعة لتشمل الدراجات الصغيرة والكبيرة والسيارات كزيت تشحيم، ومميزات تجعله صالحاً لكل شيء، حتى كمرهم لمعالجة الجروح وآلام المفاصل.

 وينظر النقاد الى مقالات التهكم على أنها من الاشتغالات البناءة في عملية التدوين الصحفي والإعلامي؛ كونها تتوزع على جميع العناوين التي تهمّ الانسان، فنقرأ مثلاً: القاعات الإمتحانية الخاصة بطلبة الدور الثاني شهدت حضور أجهزة تبريد 20 طن، و16 سؤال حجم 20 طن، مما أدى الى حدوث خلل بالأجوبة. أو خبر تظاهرة سلمية هادفة لسكان مركز المدينة القديمة، طالبوا خلالها المسؤولين المعنيين بالشأن الأمني والسياحي والخدمي بتقليل الحدائق والمتنزهات ومراكز الترفيه التي باتت تعيق الحركة داخل شوارع وأزقة مركز المدينة.

 ونجد كاتب الدبابيس وكأنه يعبر عن حلم مفقود، فهو يحلم أن يرى مدينته ويرى الجسر الذي نُفّذ بستة أشهر، وأضيفت له مطاعم ومراكز ترفيه ومحطات وقود، وهو يعمل على الطاقة الشمسية. أو حافلات نقل الركاب ذات الطوابق الأربعة التي (دشنتها) محافظتنا العزيزة، والتي تعمل على الطاقة الهيدروجينية باتت لا تلبي الإحتياج اليومي المتزايد؛ لذلك تقرر إضافة خطوط نقل بواسطة القطارات الصغيرة.! ومثل هذه الكتابة التهكمية تحتاج الى تحكم متمكن وواسع في أدوات الكتابة، ليتمكن من إيصال رسائله الى المجتمع المستهدف، فهو يكتب مثلاً عن خبر إعطاء جائرة نوبل للعلوم الفلكية لأحد وزرائنا الأعزاء؛ كونه استطاع تقسيم السنة واختزالها من 366 يوماً إلى 66 يوماً فقط.

وعن تأجيل الرحلات الجوية بين مطار مدينتنا الدولي وبين بقية مطارات العالم. أو نقرأ خبر إغلاق أكثر من (200) مطعم سياحي ذي ثلاث نجوم ونصف، لمخالفته التعليمات الصحية. أو عن عودة حافلات خارجة عن الخدمة منذ ستينيات القرن الماضي، وأوضح مصدرٌ غير (مضطلع) بالموضوع؛ أن الهدف من ذلك هو الرجوع الى حالة البساطة، وعدم التبذير، وخير الأمور أوسطها. وأجمل ما في الكتابة المتهكمة أنها لا تميل الى الغمز واللمز والهمز، بل تنتقد ظاهرة من الظواهر التي يعيشها المجتمع، وتعبر عنها بطرق مختلفة، وجميع ما يطرح يحملُ وضوحاً ذكياً، كموضوعة عن تناول الشاي في هذه المقاهي بعد توزيع أفخر أنواع الشاي السيلاني سريع الاستعمال من ضمن فقرات العزيزة تموينية. أو الحديث عن تظاهرة سلمية هادفة لمناصري حقوق الحيوان إحتجاجاً على إطفاء أجهزة التبريد المركزية، وغيرها من وسائل التبريد المخصصة للدببة القطبية الموجودة في حديقة الحيوان النموذجية العالمية في مدينتنا هو للحفاظ على المواد الغذائية من التلف؛ كونها تصلُ في أغلب الأحيان وهي منتهية الصلاحية. وخبر المباشرة بإنشاء نافورات عملاقة ومتنزهات وحدائق ومراكز صحية ورياض للأطفال في المساحات المحيطة بمدينتنا العزيزة. وبمناسبة العام الدراسي الجديد، ودعماً للطلبة المتفوقين، توزيع بدلات صيفية وشتوية على طلبة الدور الأول، وتوزيع حقائب على طلبة الدور الثاني، وتوزيع رحلات محمولة على طلبة الدور الثالث.

 ورغم كلّ تلك الروح الخفيفة الظل إلا أنه يبقى الموضوع التهكمي هو موضوع جاد للغاية، ويطرح مضامين عالية تسعى لترسيخ الفكرة ومفردات الحوار، مثل: موضوعه الساخر عن المدارس إذ هيّأت له الذاكرة المازحة قضية المدارس وما تعانيه، فكتب قبول أكثر من (200000) طالب من محافظاتنا العزيزة، ومن بعض دول الجوار الأعزاء في مدارس مدينتنا النموذجية. اللجنة المختصة في موسوعة (غينس) تقرر تسجيل أرصفة مدينتنا كأكثر أرصفة تعرضت للتبديل في العالم. نظراً للظروف الصحية المتميّزة التي يمرُ بها البلد، قررت الوزارات ذات العلاقة رفع سن التقاعد الى (110) سنة، وسنّ التعيين الى (70) سنة. ومثل هذه المسؤولية تلج بنا للعديد من المواضيع المتنوعة التي تقتضيها دواعي كل ظرف وكل مناسبة وكل حدث؛ كي يضع حضورنا تحت قابلية الشمول الكلي، ويتقرب الى وظيفة التدوين التوثيقي، مثل: موضوعة فرض عقوبات مالية تصل الى(100) مليون يورو على مجموعة شركات أدوية قامت باستيراد أو نقل (9) ترليون دينار عراقي من ميزانية بعض المحافظات، كمساعدات مباشرة لضحايا الزلازل والبراكين والتسمّم بالطحين والشاي و(التاي) عالي الجودة. أو قبول لجوء أكثر من 200 برلماني أجنبي وعربي في بلدنا، وعند الاستفسار عن السبب، صرح أحد اللاجئين: إن حجم المخصصات والرواتب وقطع الأراضي والسيارات والحمايات دفعته للقدوم. أو موضوعة تظاهرة سلمية غير مسلحة هادفة لطلبة رياض الأطفال الأهلية في عدة محافظات، وقدم زعيم التظاهرة (طفل بعمر أربع سنوات لا غير) مجموعة مطاليب، أهمها المساواة مع طلبة رياض الأطفال الحكومية النموذجية المنتشرة في محافظتنا العزيزة، من ناحية التخصيصات والإمتيازات، ومنها النقل والطعام واللغات، والألعاب الحديثة والقاعات المكيفة و(كارتون حليب نيدو).

وفي خضم هذا التنوع الموضوعي باتجاه الواقع المعاش، نجد أن هناك تنوعاً داخل كل عرض، فهناك الطرح السياسي والاجتماعي، وبنى تتشكل نحو مجموعة مصافي مدينتنا العزيزة، توقع عقد تجهيز غاز طبيعي ونفط خام، ونفط أسود، مع شركات من دول الإتحاد الأوربي لمدة عشرين سنة. أو فتح طرق جديدة نحو مدينتنا العزيزة، من أجل تسهيل دخول الأعداد المليونية من الزائرين، ويبتعد المقال التهكمي في صدى الروضتين عن الهجائية أو السخط الشخصي، وإنما الاشتغال على جميع حرفيات الواقع، فنقرأ في أحد مواضيعه: حفاظاً على التراث الخاص بالنقل، قرر الزائرون استعمال العربات التي تجرّها الحيوانات. أعلنت المحطة العالمية للطاقة في مدينتنا العزيزة، ومع قدوم فصل الصيف عن فائض كبير جداً في مجال الطاقة. أو نجده في موضوع آخر يتعرض لموضوع الطبقية، فيقترح فرض غرامة مالية تصل الى ألف دينار عراقي لا غير قابلة للإرجاع على السادة النواب والوزراء ونوابهم ووكلائهم (يُستثنى سائقوهم، ومديرو مكاتبهم، والناطقون باسمهم)، وذلك إذا ثبت أن مساحة المنزل تجاوزت (4000)م2 مع مسابح. إدارة ميناء البصرة العملاق المتكون من (20) رصيفاً للتحميل، تقرر نقل تجربتها الناجحة بفضل الدول الشقيقة العزيزة التي بذلت كلّ جهودها من أجل إكماله بوقت قياسي (100 سنة) الى الدول الأوربية كمشروع تعاوني خدمي كبير.

 فالكاتب يرتكز عن عيوب وإنما عن قصور في العمل، ويختص كل عمود بموضوع لا يتجاوزه الى نزعة من النزعات الشخصية: وصرح مصدر أن المحكمة أصدرت القرار بعد رؤية قضية مشابهة في العراق، لكن عكس الشروط أي تشغيل لــ(1 ساعة في اليوم) وسعر الأمبير ربع مليون. أو نجده في موضوع: إحالة مجموعة من الوزراء والمحافظين السابقين الى القضاء بتهمة الفساد، وبعد مداولات عديدة أطلق سراحهم بكفالات رمزية (2ـ6 مليار) لعدم كفاية الأدلة أسوة بأمراء تنظيم القاعدة. أو نجده في موضوع إحالة مشاريع إعادة ترميم وصبغ المدارس الى طلبة الصفوف المنتهية ولايتهم، باعتبارهم كوادر عاطلة عن العمل في المستقبل. وعن إحالة قضية تطوير قطاع الكهرباء في بلدنا العزيز الى موسوعة (غينيس) للأرقام القياسية. أو تدشين القطارات الحديثة والباصات ذات الطوابق الثلاث الحديثة جداً. في هذه المواضيع أو غيرها نجد الكاتب قد أجاد قراءة الواقع العراقي قراءة مدركة، وتعامل مع نظم الواقع بتخصص، ففي موضوع توزيع مواد غذائية كاملة مع مظلة للوقاية من حرارة الشمس، مع بطانية للحماية من برودة الليل على جميع زائري مدينتنا الحبيبة. أو نجده يتابع الأحداث والمناسبات كمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، فيرى أن الجهات المختصة والمسؤولة عن توفير الخدمات للمواطنين، تستنفر طاقاتها وإمكانياتها وكفاءاتها وخبراتها العملاقة المتراكمة الوطنية والأجنبية من أجل توفير ساعة واحدة فقط لا غير من مادة الكهرباء، وصرّح مصدر مسؤول: إن هذه الساعة ستكون في وقت السحور حصراً، أما (23) ساعة المتبقية فستحول لأجهزة التبريد العملاقة الموجودة في قاعات السادة المسؤولين من أعضاء البرلمان والحكومة حصراً.

ومناقشة مثل هذا الأسلوب التدويني يأخذنا نحو ميزة اشتغالاتها؛ كونها توظف المحكي السردي توظيفاً فنياً خارجاً عن المألوف، وعلى كل حال، إن مثل هذه الكتابة هي الأقرب الى الواقعية السحرية، لتكريس صدق مفترض للمعروض، كموضوع إنشاء نافورات عملاقة في كل الشوارع والتقاطعات الرئيسة، بل وحتى الأزقة والحارات في مدن وسط وجنوب بلدنا العزيز. بعد اجتماعات متواصلة ومخاض عسير داخل البلد (تحت الكنتوري حصراً) وخارج البلد (في منتجعات أوربا) قرر المسؤولون عن مفردات العزيزة تموينية. أو كما نقف عند موضوع إضافة الى القرطاسية المتعددة التي تُسلَّم للطلبة، والمكوّنة من (92) مادة (قلم سوفت، حقيبة جلد، أحذية رياضية، دفاتر أبو 1000 زيتي...إلخ) تقرر إضافة رحلة (دلفري) درجة أولى يابانية المنشأ سوق هرج تجميع.

 وبالنتيجة، إن كلّ موضوع من هذه المواضيع التهكمية ومن خلال المبنى التهكمي إشارة معرفية عن موضوعة معينة واحدة، فمثلاً أن تكون الأولى عن الكهرباء بمناسبة عيد الأضحى المبارك، قرر المسؤولون عن توفير مادة الكهرباء (اختراع من العصور الوسطى) إعطاء ساعة واحدة إضافية في النهار ومثلها في الليل، والثانية إطلاق منح وسلف مالية تُقدر بــ(ترليون فلس) للمتقاعدين والفلاحين وأصحاب الاحتياجات الخاصة وبشرط بسيط جداً وهو إتمام فترة (70) سنة للعسكريين والموظفين، و(90) سنة للفلاحين. أو موضوعة: نقل تجربة تغليف البزول بالمشبكات الحديدية، والتي عُدّت الأولى في تاريخ البشرية، وسابقة في علوم الفضاء والفيزياء والجيلوجيا الى دول مجاورة، فالتهكم طاقة سردية تمتزجُ بها الحدث بالواقع المتخيل، ومثل هذا التهكم شكل ظاهرة ثقافية واسعة الانتشار، لكنها صعبة المنال يتلقفها التلقي بنهم وشوق، ويدلنا التشخيص على قراءة موضوع أحد الدبابيس: نظراً للوضع الأمني المستقر جداً، قررت الجهات المسؤولة عن توفيره رفع السيطرات الداخلية والخارجية والفرعية وما بينهما في مدننا العزيزة، والإكتفاء بوضع قطع كونكريتية صغيرة جداً. وموضوع: إنهاء التعاقد من شركات عالمية مشهورة ببناء المطارات والناطحات والجامعات من أجل إنشاء ورشة عملاقة للصيانة.

 والدبابيس ترتقي الى مستويات الجذب؛ لكونها تدخل ضمن عوالم المتلقي نفسه، مثلاً في صياغة الخبر التالي: بالنظر لقرب فصل الشتاء ودعماً للمواطن، قررت الجهات المسؤولة توزيع بطانيات (تركية المنشأ فرو وجهين)، وقنينة غاز على عدد أفراد الأسرة، مع برميل نفط غير مكرر (خام)، نعم نجحت دبابيس في مزج الخيال الخصب مع حيثيات الواقع المعاش.
أخترنا لك
الفاء

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة