وردت في مقدمة الاستفتاء الموجه الى المرجعية الدينية العليا - حول
عمل الكوادر الصحية ( الطبية والتمريضية والمتطوعون ) وهم يخاطرون
بصحتهم في مواجهتهم للوباء – عبارة ( لايخفى عليكم )، ولامجال لأن
يخفى على المرجعية العليا شيء يتعلق بحياة الناس ومصالحهم وجميع
همومهم وقضاياهم الا أحاطت به علما وألمت به الماما تاما، بحيث لايترك
دون اهتمام أو مواكبة حتى منتهاه في يسر وعافية وسداد
.
ووردت في خاتمة الاستفتاء ذاته عبارة : ( ماهي كلمة المرجعية الدينية
لهم ؟).. وقد كان هناك من ينتظر الجواب, وربما هو انتظار لهفة واشتياق
لما سيصدر من قول سيكون له الأثر المعنوي الذي يشجع هذه الفئات على
مواصلة عملها واتمام مهمتها ..
ربما كان البعض يتوقع كلمات كالتي اعتاد سماعها من المسؤولين حين
يشجعون الكوادر الصحية ببعض منها أثناء تفقدهم للوضع، لكن الغالبية
كانت تنتظر شيئا آخر، فالاستفتاء موجه لمكتب المرجع الأعلى وماسيصدر
عنه سيكون بحجم هذه المكانة السامية التي عهدها المجتمع في مرجعية
الاتزان والحكمة ..
صدر الجواب مستهلا ب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وعيون هؤلاء تقرأه
كلمة كلمة .. العبارة الأولى تحدد عملهم بأنه ( واجب كفائي ), وهي
كلمة تشبه تلك التي قيلت على منبر الحسين عليه السلام فصنعت النصر
ومازال صداها يرعب الأعداء .. ثم جاء الوجوب : ( يجب على السلطات
المعنية أن توفر لهم كل المستلزمات الضرورية لحمايتهم من مخاطر
الاصابة بالمرض ولاعذر لها في التخلف عن ذلك ) .. فرأت الكوادر الصحية
نفسها مدعومة من قبل المرجع الأعلى الذي كان حريصا على سلامة
المنتسبين فيها فهم بمثابة الأبناء .. انها الابوة وقد رأوها في هذه
الكلمات ..
ثم جائت هذه المقاربة وهذا التقييم : (ولا شك في ان ما يقوم به
هؤلاء الأعزّة بالرغم من كل التحديات عمل عظيم وجهد لا يُقدّر
بثمن، ولعلّه يُقارب في الأهميّة مرابطة المقاتلين الأبطال في الثغور
دفاعاً عن البلد وأهله ) .
ثم كان الرجاء بأن المضحي منهم بحياته في هذا السبيل أن يثبت له أجر
الشهيد ومكانته يوم الحساب .. فكان لذلك بالغ الأثر في نفوسهم
يتسائلون : شهداء .. شهداء .. أحقا شهداء ؟
العيون تترقب ماسيختتم به الاستفتاء ..
المرجعية العليا تشكرهم شكرا جزيلا وببالغ التقدير تثمن عملهم وتصفه
بالانساني الجليل ..
العيون تشاهد فأذا بها دعوة مباركة تسأل بها المرجعية العليا العلي
القدير ان يحميهم .. ويحفظهم .. ويبعد عنهم كل سوء .. انه هو السميع
المجيب ..
نظرة أخرى لتاريخ هذه البشرى، انه الحادي والعشرون من شهر رجب الأصب
سنة 1441 من الهجرة وقد صبت عليهم الرحمة فيه
صبا..
نظرة أخيرة للاستفتاء وقد ختم بختمه الشريف .. لتنطلق هذه الكوادر في
مواجهتها للوباء يصحبها الأمل بالنصر والفوز، فكانت الصور الرائعة
والمشاهد الجميلة والمواقف الانسانية تتجلى بأروع التجليات، فما الذي
فعلته الكلمة التي قالها السيد السيستاني ؟ ..
لست ممن يعمل ضمن هذه الكوادر التي أغبطها على ذلك، لكنني أحببت أن
أسجل بعضا من المواقف التي كان لكلمة المرجعية فيها الأثر البالغ الذي
يتخطى كل التصورات عن تضحيات لاتضاهيها سوى تلك التي سطرها ابناء
الفتوى على السواتر، فاستعنت بصاحبي الذي يعمل موظفا في دائرة
المشاريع التابعة لوزارة الصحة وكانت وظيفته تجهيز المستشفيات بما
يلزمها من معدات في مواجهة تحديات الجائحة، كانت فرص اللقاء به نادرة
لذلك انتهزت فرصة تهنئته بالعيد لاطلب منه أن يرسل لي بعضا من
مشاهداته لمواقف هذه الكوادر بعد صدور الاستفتاء فلم يقصر الرجل في
سرد ما اسعفته به ذاكرته وسأورده بتصرف مني في بعض عباراته دون الخروج
عن القصد في روايته :
قال : " في بداية انتشار هذا الفيروس - الذي وصفه باللعين – تم
توجيهنا من قبل الوزارة للقيام بزيارات ميدانية ندون فيها احتياجات
المستشفيات بصورة عامة من أسرة ومواد عزل .. كنا نذهب والخوف يرافقنا
لاننا نعلم مدى خطورة هذا الفيروس اللعين، لذلك كنا نقف خارج المستشفى
وننتظر شخصا يسلمنا قائمة الاحتياجات وكان خوفنا يزداد كلما اقترب منا
رغم اننا كنا نرتدي مستلزمات الوقاية، وكانت مجموعتنا تتألف من
مهندسين واداريين انيط بهم هذا الواجب, حتى أننا قدمنا اعتذارا
لمسؤولينا من اكمال هذا العمل بسبب خطورة الوضع فهي مسالة حياة او موت
بالنسبة لنا لكن الادارة كانت ترفض بسبب عدم وجود بديل
..
ذات يوم اتصل بي أحد الاخوة المهندسين وسألني : ( هل سمعت بماذا أفتى
السيد المرجع ) لم أكن حينها قد اطلعت على الاستفتاء، فأرسل لي نسخة
منه عبر الهاتف قرأتها واتصلت به، وقبل أن أتكلم معه بشيء أخبرني
بأننا سنذهب غدا الى مستشفى العزل الجديد الذي يقع على أحد جانبي قناة
الجيش وكان في وقت سابق فندقا لبعثة الأمم المتحدة
..
هنا تغير كل شيء لأننا هذه المرة دخلنا ببدلاتنا الواقية دون ذلك
الخوف الذي كان يلازمنا حيث كانت الوجوه شاحبة من قلق على النفس
والعيال فيما لو تعرضنا للعدوى، بل تعدى الأمر الى شعور بالحماسة ليوم
آخر من العمل في سبيل توفير احتياجات هذه المستشفيات والدخول في
ردهاتها دون خوف وكنا نروي للكوادر التمريضية فيها حكاية مشاعرنا قبل
الفتوى وبعدها فاخبرونا أن القضية لا تخصكم وحدكم فقد كان لدينا أشخاص
يرفضون التعامل مع الحالات المصابة لكنهم بعد صدور هذا الاستفتاء
عادوا وقد علت وجوههم الابتسامة .
يكمل صاحبي حديثه : لم يكن هؤلاء بمثابة كادر تمريضي فقط بل كانوا مثل
العائلة للشخص المصاب يشجع بعضهم البعض ويوصي بعضهم البعض بأن لاتقصر
مع المريض .. وكم حاولت أن التقط للبعض منهم صورا وهم يسطرون هذه
المواقف الانسانية الرائعة لكنهم كانوا يرفضون ذلك ويقولون : ( هذا
عملنا خالص لوجه الله تعالى) ويقولون : ( نخاف يصير رياء وهاي فتوى من
السيد المرجع يعني هذا العمل مقبول وما نريد يضيع ) .. قلت لهم اذن
حدثوني عن بعض المواقف التي كنتم شهود عيان فيها .. قال أحدهم : ( كنا
سابقا اذا جاء موعد خفارتنا نهيء انفسنا قبل خمس او عشر دقائق من
الساعة الاخيرة لكي نسلم الواجب للممرض الآخر، الآن عندما يذهب
الخفر للاستراحة ويدخل الغرفة ناخذ الهاتف حتى لايرن ويستيقظ ونعمل
أجواء ونطفيء الانوار ونغلق الباب باحكام وكل هذا في سبيل نبقى لأطول
مدة في الخفارة طلبا للأجر ).. ثم يروي حكاية أخرى فيقول : ( كانت
احدى عاملات النظافة وهي امرأة كبيرة السن لم تكن تغادر الى منزلها
وكانت بمثابة الأم للمصابات من النساء حيث كانت تهتم بشؤونهن الخاصة
).
هذا ما ذكره لي هذا الاخ طالبا عدم ذكر اسمه فهو يرى أن الأجر قد يزول
بذكر الاسماء كما هو في أداء سائر القربات كالخدمة الحسينية في
الزيارة وغيرها .
هنا ينبغي الاشارة الى أن كلمة السيد المرجع الأعلى كان لها
الاثر البالغ في حث هؤلاء الاعزة وتشجيعهم لأداء عملهم على أكمل وجه
..
والأمثلة التي أوردناها وأن كانت مقتصرة على شريحة معينة لكننا لانغفل
دور الأطباء وغيرهم ممن نذروا أنفسهم لأداء هذا الواجب الانساني
الكبير ولا نغفل كذلك عن كونهم بشر يصيبهم ما يصيب سائر الناس من
العلل والامراض وأن لهم آباء وأمهات وزوجات وأولاد يخشون عليهم كما
نخشى نحن لكنهم آثروا الا أن يكونوا من المضحين ..
فتحية لهم وهم يخوضون غمار هذه المعركة .