جاؤوا من هناك .. من مكان بعيد .. وربما قريب .. كنا نسترق السمع من
الاذاعات الممنوعة المشوشة نتقصى حقيقة وجودهم ونخادع عقولنا بأمل
عودتهم دون أن نعرف من هم وما هم وأين هم حيث أن الغريق يبحث عن قشة
تنجيه وأن سجننا الكبير المظلم بأبوابه المحكمة الغلق جعلنا نحلم
بالخلاص كأي سجين .
كان كل ما يجول في خواطرنا أنهم ( معارضة ) وكم كان لهذه الكلمة من
إيقاع ساحر نعزفه همسا مخافة واش يزج بأسمائنا في تقريره الحزبي فنلحق
بمن سبقنا الى غرف التحقيق ومن ثم الى محكمة الثورة
.
وكان لهذا الشعب ظن بأن معارضته التي ينتظر قدومها ستنقذه ذات
يوم ، وكل مايعرفه عن أشخاصها أنهم عارضوا فاضطهدوا وشردوا
وأنهم أصحاب أسماء حركية واجتماعات سرية وأصحاب جهاد ونضال
..
في ليلة وضحاها ومع دخان الحرب وأصوات انفجارات الصواريخ الباليستية
ومع انتهاء الحواسم التي أسقطت الطاغوت و بداية حواسم الدوائرالحكومية
والمصارف والمستشفيات وانهيار البلد أطلت علينا وجوههم وكنا نتحرق
شوقا لهذا اللقاء لنرى من كنا نسمع عنهم ونتوق الى رؤيتهم ونبحث عن
ترجمة لأسماءهم الحركية ونعيش على أمل أن يعيدوا لنا - إن حكموا - ولو
الجزء اليسير مما خسرناه من أعمارنا في انتظار البديل لمن أطبق بفكيه
وكفيه على حياتنا .
لم نكن نعلم أن أحزابنا التي استهلت مقدمها علينا بخطابات وشعارات
التغيير والفسيفساء والمارد المعنوي واللحمة الوطنية وهي تلتقي
بالجماهير تحت أشعة الشمس الحارقة لتقص عليهم حكاية صدام والبعث
والظلم لم تلتفت الى أن من يصغي للحكاية هو بطلها !!
.
لم نكن نعلم بأن أحزاب سلطة اليوم ستتجه الى التجارة بنا
بهذا الشكل المقيت المخزي ، ولم نكن نعلم أننا كنا نعيش أكبر أكذوبات
البشر ، ولم نكن نعلم أن من كنا ننتظره سيعاملنا كبعثيين لأننا خدمنا
( المكلفية والاحتياط ) ، ولم نكن نعلم أنها أحزاب لاتفقه شيئا مما
تعنيه تقيتنا التي هي دين الأئمة ، ولم نكن نعلم أنهم قد أعدوا عدتهم
ليضعوا العراق وشعبه على هامش تجارتهم ومصالحهم ليشرعوا لأنفسهم ومن
تبعهم القوانين والامتيازات ويهرعوا بلا خجل ولا حياء لإنشاء وتأسيس
هيئات ومؤسسات تعمل لصالحهم ضاربين بعرض الجدار كل المؤسسات الاخرى
التي تعني الشعب .
هي أحزاب لم تشهد الدنيا لها مثيلا في عشقها وولعها بالمال والسلطة
وبراعتها في اللامبالاة والتجاهل وانعدام الشعور بمسؤوليتها تجاه
وطنها وجمهورها الذي اختارها لحياته عونا فكانت مثل صقر فالح الذي
لايلقي على صاحبه الا الافاعي والعقارب .
لم نكن نعلم أنها تعتبر العراق وطنا ثانويا بالنسبة لها وأن الجنسية
المزدوجة سيكون لها دور في سياستها ، ولم نكن نعلم أنها ستجعل
المرجعية الدينية خلف ظهرها بعدم الانصات لها ، ولم نكن نعلم أنها
ستمثل دور المنقذ الى حين وأجل مسمى حتى يتحقق لها ما تطمح إليه..وقد
برعت باختيار التوقيت المناسب للانقضاض على مالذ وطاب فهي لم
تزل ترتدي جلباب المسكنة وتظهر الحرص والغيرة وتعلن عن نيتها وعزمها
على أن تكون نقيضا لذلك النظام الذي ادعت معارضته حتى تمكنت - بعد
خداع الناس - من اعتلاء قمة الهرم وكشرت عن أنيابها لتسرق وتكذب وتخون
دون أن تترك آية من آيات المنافقين الا واتسمت بها ولارداء سوء الى
لبسته ، لتبرهن لنا أنها أحزاب تقتات على الخراب وتنمو وتتكاثر وتنشطر
وسط الفوضى وأن كل مامن شأنه تقويم مسارها فهو العدو الذي ينبغي
أن تحذر منه وتتخذ التدابير لتلافي شروره المحدقة بها ، فهي تعد
الاصلاح والتطور والنمو والتقدم والازدهار مفردات شر تستعيذ منه
ومفردات تتنافى مع ضرورات بقائها ونموها .
وهي ماتزال تدعي الانتماء والتمثيل للناس ببعض التلون وعذب
الكلام أعانها على ذلك إعلان البعض عن صنميته في اتباعها والترويج لها
،ومازالت تدعي - كذبا وزورا - الطاعة لمرجعية دينية بح صوتها في سبيل
تقويم هذا المسار المنحرف حتى أغلقت الباب ومنذ زمن طويل بوجه كل
مسؤول فيها .. إذ أنها أحزاب تضع الشمس في يمين احلام
الفقراء والقمر في شمالها ، وتقضي فترات دعايتها الانتخابية في
مناطقهم وقراهم تستمع للأهازيج وتشتري حفاوة اللقاء بدنانير بيت المال
فتعدهم لتخلف وعدها وتقسم لتحنث يمينها فالغاية هي أن تكون
الصناديق ممتلئة بالاصوات لتمتليء بعدها البنوك بالارصدة وتزدحم فيها
المليارات فصارت مصداقا لعبيد الدنيا الذين اصبح الدين لعق على
ألسنتهم ، حتى فتحت الباب لكل حاقد أن يتشدق ويتبجح بعبارة : ( أنكم
لاتصلحون للحكم ) وانتهكت بسببها حرمة العمامة وكثر التطاول على
العلماء ورفعت الشعارات التي تنتقص من المقدسات وفسح المجال لكل من لا
حريجة له في الدين أن يترحم على الطاغية دون أن يعي بأن ظلم بني
العباس ليس مبررا للترحم على بني أمية فضعفت الحجة وقلت الحيلة
وعجز الحريص عن إفهام من لايريد أن يفهم ، ورغم ذلك أصرت هذه الأحزاب
على أن تكون ضمن دائرة المكون الذي تمثله سياسيا
وإن كان تمثيلا مخادعا لاقيمة له ، حيث تعتقد بضرورة البقاء
بالقرب من الجمهور وتمارس لعبة الوعود الكاذبة والحلول الترقيعية
للمشاكل والتزمت بهذا النهج المخادع لسنوات طويلة ، لكن هذا الالتزام
أصبح اليوم عبئا عليها إذ فوجئت بمشروع إصلاحي كبير لم يترك لها سوى
خيارين لاثالث لهما : فهي إما أن تكون مع ( من صلاته أتم متمثلا
بمشروع الاصلاح ومن يرعاه وإما أن تكون مع من طعامه أدسم متمثلا بحب
الدنيا والمصالح الشخصية والفئوية والولاءات الخارجية ) والجمع بين
الخيارين مرفوض ، فما عاد بوسعها أن تكون كشيخ المضيرة وماعاد
بوسع هذا الشعب أن يتحمل المزيد من نفاقها وتلونها .
فمطالب الشعب واضحة ..ومطالب المرجعية العليا واضحة وتضامنها مع
الجمهور قد أعلنت عنه مبكرا وحذرت وأنذرت ومنحتها
والقائمين عليها مايكفي ليرجعوا الى صوابهم - ولا أراهم فاعلين
- .. وإلا سيكون للمشهد وجه آخر .