من بينِ بضعِ غيماتٍ مُتناثرة، كانتْ شمسُ السابعةِ صباحًا تسترقُ
النظرَ إلى هذه المدينةِ الغارقةِ، بعدَ ليلةٍ حافلةٍ بالبَرقِ
والرعدِ وزخّاتِ مطرٍ كثيفةٍ، وهي تشهدُ أولَ المُغادرين من منازلِهم
الحاجَّ سلمانَ الذي كان مُترددًا كثيرًا في الذهابِ لعملهِ في دائرةِ
الصِحّة، حيث لا مجالَ للمُجازفةِ بخوضِ غِمارِ هذه الأمواجِ
المُتلاطِمةِ التي أغرقتِ الحيّ بأكملِه، لكنّه كان مُضطرًا للذهابِ
بعدَ أنْ فشلَ في إقناعِ مُديره عِبرَ اتصالٍ هاتفي استهلكَ ما تبقّى
له من رصيد!
كانتِ الساعةُ قد تجاوزتِ السابعةَ، ووقتُ وصولِه للدائرةِ يستغرقُ في
الأيامِ العاديةِ ساعةً كاملةً، لكنّه الآنَ ومع هذه المياهِ لا علمَ
له بما ستستغرقُ رحلته البحرية من وقت..
وقفَ ببابِ المنزلِ، أشعلَ سيجارتَه وهو يُفكِّرُ بطريقةٍ للعبورِ إلى
الضِفّةِ الأُخرى من نهرِ الزُقاق حيثُ يُمكِنُه السير، فلعلَّ وقتَ
التفكيرِ هذا سينفعُه بقدومِ سيارةٍ أو أيّ واسطةٍ أُخرى تختصرُ عليه
الوقتَ وتُجنِّبُه مشقةَ العبورِ أو حتّى التفكير به.
اِنتظرَ بُرهةً، وتلاشتْ ملامحُ سيجارتِه؛ لتُصبِحَ مُجرّدَ جزءٍ
صغيرٍ لا دُخانَ فيه. ألقى بما تبقّى منها في الماءِ ورفعَ بنطالَه
فوقَ رُكبتيه، حملَ حذاءَه بيدِه وقبلَ أنْ ينزلَ في الماءِ رمقَ
نهايةَ الزُقاقِ بنظرةٍ أخيرةٍ لعلَّ سيارةً تنتشلُه، لكن دونَ
جدوى..
استسلمَ لهذا الواقعِ المُبتلِ، كما استسلمَ لغيرِه في مسيرةِ عُمره؛
إذ لم يكنْ انتظارُه للحلِّ أولَ انتظارٍ له في حياتِه، فلطالما
انتظرَ حلولًا لأزماتِه تتصدَّرُ قوائمَها ضرباتُ الحظِّ ولم يُفلحْ
بها..
وضعَ قدمَه اليُمنى في الماءِ الذي كانَ باردًا إلى حدٍ كبيرٍ، وقد
وصلَ إلى رُكبتيه، وحينَ أنزلَ قدمَه الأُخرى كانتِ القشعريرةُ قد
تملّكتْ جسمَه بالكامل!
أخذ بالسيرِ نحوَ الرصيفِ الآخر وهو يتوقّعُ في كُلِّ خطوةٍ أنْ يهويَ
في حُفرةٍ ضيّعت ملامحَها هذه المياهُ التي اتخذتْ لونَ الطين.
مشى بضعَ خطواتٍ، ولم يبقَ له سوى مسافةٍ قليلة، حتى طرقَ أسماعَه
صوتُ سيارةٍ قادمةٍ، كانتْ سيارةَ جارِه مُحسن الحكومية التي
انتظرَها. أخذَ يندبُ حظَّه ويُلقي باللومِ على نفسِه لاِستعجالِه
قرارَ النزولِ إلى الماء، وماتزالُ القشعريرةُ تُلازمُه..
أصبحَ على الرصيفِ الآخر بينما كانتْ سيارةُ مُحسنٍ تقترِبُ منه شيئًا
فشيئًا، أنزلَ بنطالَه وارتدى حذاءه، توقّفَ مُحسنُ بجانبِ الرصيفِ
وألقى التحيةَ مُبتسمًا، على حين كانَ سلمانُ يُشعلُ سيجارتَه
الثانية..
بعد لحظاتٍ كانتِ
ولم ينبسْ كلاهما ببنت شفة. وكان الطريقُ إلى الشارعِ الرئيسي يشهدُ
مع مرورِ الوقتِ العشراتِ من الواقفينَ على جانبيه..
ابتسمَ الحاجُّ سلمان وقال وهو يُحدِّثُ نفسه:
- حكايتُنا واحدةٌ، ستنزلون للماءِ شئتُم أم أبيتُم، سيأتيكم مُحسنٌ
بعدَ فواتِ الأوان..
انتبه إليه مُحسِنٌ وهو يُحدِّثُ نفسَه، قال له:
- خير؟!
فأجابه:
- سلامتك، تذكرتُ حكاية وضحكت..
لم يكنْ مُحسِن فضوليًا إلى درجةِ سبرِ أغوارِ سالفةِ الحاجِّ سلمان،
فاكتفى بابتسامةٍ عريضةٍ وهو ينظرُ للأمواج التي تصنعُها مركبتُه في
هذا الفيضان.
بعدَ نصفِ ساعةٍ من الرحلة، كانَ على الحاجِّ سلمان أنْ يترجَّلَ من
السيارة؛ لأنَّ دائرتَه بالاتجاهِ الآخر، نزلَ من السيارةِ وهو يشكرُ
جارَه على إيصاله.
كانَ الشارعُ الرئيسي أفضل حالًا من الأزقة، وما عليه الآن سوى
انتظارِ أحدِ الباصاتِ الصغيرةِ التي تُقِلُهُ كُلَّ يومٍ لعملِه.
طالَ وقوفُه وهو يتقي الماءَ الذي يتطايرُ من عجلاتِ المركباتِ
المُسرعة، نظرَ في هاتفِه ليعرفَ الوقت، كانتِ الساعةُ قد تجاوزتِ
الثامنة، ولم يأتِ الباصُ، فكّرَ بالاتصالِ بمُديرِه لكنّه تذكّرَ
أنَّ رصيدَ هاتفه غيرُ كافٍ للاتصال، وقرَّرَ مرةً أخرى انتظارَ ضربةِ
حظٍّ جديدة -ولو مُتأخرة- كسيارةِ مُحسن..
في هذه الأثناء مرّتْ شاحنةٌ كبيرةٌ من أمامِه وكعادتِه تراجعَ للخلفِ
ليتجنّبَ الرذاذَ المُتطاير، لكنّه هذه المرة دفعَ بجسمِه بقوّةٍ إلى
الوراءِ ودونَ أنْ ينتبهَ لحافّةِ الرصيفِ خلفَه، هوى على ظهرِه في
حُفرةٍ كبيرةٍ مليئةٍ بماءِ الأمطار، كانَ بعضُ المارّةِ قدِ انتبهوا
لسقوطِه، فقاموا بإخراجِه وهو يئنُّ من الألم، ويُعاني من صعوبةٍ في
النُطقِ بسببِ برودةِ الماءِ وألمِ السقوط..
حملَه بعضُهم في سيارةٍ للأُجرةِ وتوجّهوا به نحو المُستشفى، كانَ
يستمعُ لهم وهم يقولون له:
- سلامات إن شاء الله..
وهو مُستلقٍ على المقعدِ الخلفي للسيارةِ، لا يُرى سوى سقفِها وجُزءٍ
من السماءِ التي صارتْ تُنذِرُ بمزيدٍ من المطر، على حين كانَ مذياعُ
السيارةِ يبثُّ نشرتَه الخبرية التي جاءَ فيها: أنَّ مجلسَ المُحافظةِ
قرَّرَ أنْ يكونَ اليوم عُطلةً رسميةً بسببِ الأمطار!
بقلم حسين فرحان