ما بين العلمانية والمدنية

2024/06/21

 نشر بالامس القريب مقالاً يدعي صاحبه بان المرجعية العليا، المتمثلة بسماحة آية الله العظمى علي السيستاني دام ظله العالي في النجف الاشرف، تميل الى الإسلام المدني والطرح العلماني، او المرجعية تتبنى "اسلام امريكي".

في المقال مغالطات عدة، سنحاول أن نبين للقارئ هذه المغالطات.

العلمانية بفتح العين (العَلمانية) وهي مشتقة من كلمة العالَم بمعنى الدنيا التي نعيش فيها، وهي الترجمة العربية لكلمة Secularism التي تعرفها دائرة المعارف البريطانية بأنها حركة غايتها صرف الناس عن تعاليم السماء، ان كانت يهودية او مسيحية او اسلامية.

فبعد ان سقطت روما في ٤٧٦ ميلادي، من قِبل قبائل الالمان و قبائل الهون والقوط الغربيين، بقيادة ألاريك الأول، قُتيل الامبراطور رومانوس، حتى سقطت اوروبا الغربية بالكامل تباعاً.

ترك سقوط روما فراغاً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، حتى مهّدت لسيطرة الكنيسة المسيحية البابوية على ادارة الدولة، فإدّعو انهم خلفاء السيد المسيح عليه السلام، فإصطدموا كثيراً بملوك الالمان التي حكمت الكنيسة روما.

تعتبر الكنيسة ما جاء من نتاجات علمية وفلسفية رومانية هو ميراث وثني يخالف رسالة السيد المسيح، وعليهم مواجهة هذه النتاجات، فمارست كل انواع القمع لاي فكر أو حركة تخالف توجهات الكنيسة.

إستمر هذا النهج لما يقارب ألف سنة، تعيش اوروبا تحت حكم الكنيسة. خلال هذه المرحلة، ولتعزيز السيطرة، حاولت الكنيسة اقناع الفقراء بدعوتها "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، ومن عارض تعاليم الكنيسة عارض الله.

عبودية الكنيسة كانت داعي لظهور حركات مسيحية متمردة على الكنيسة، كالبروتستانت، فإنقسمت اوروبا دينياً، تمردوا على البابا كالمملكة المتحدة، لينتُج صدام دموي بين البروتستانت والكاثوليك في سويسرا وفرنسا والمانيا والمملكة المتحدة وغيرها في ١٥٧١. 

هنا بدء تاريخ العلمانية، عندما حصل صلح اسمه ويستفاليا بين الكاثوليك والبروتستانت في عام ١٦٤٨، والتي لا تؤمن بالآخرة والدفع بالاهتمام بالدنيا. وقد تطورت لتصبح حركة مضادة للدين والمسيحية خاصة.

أما الدولة المدنية فقد بدءت بوادرها في عصر النهضة، بعد أن خرج الناس عن عبودية الكنيسة، والتي فتحت ابوابها ايطاليا. 

كان الدافع وراء ظهور الدولة المدنية بسبب تقسيم المجتمعات الاوروبية حسب مؤهلات الافراد الى طبقات اجتماعية اربعة:
- طبقات اجتماعية كطبقة الأشراف وتتكون من أفراد الحكام والكهنة والقضاة، ولهم نفوذ سياسي واجتماعي وفلسفي، تؤهلهم لادارة الحكم.
- طبقة أصحاب المهن.
- طبقة الفلاحين الفقراء.
- طبقة الأرقاء.

فجاءت المدنية لترفع هذا التمايز، ولتكون هناك مساواة بين كافة أفراد المجتمع دون أدنى استثناء، بالنسبة للحقوق والحريات والوظائف والواجبات، سواء كانت مادية أم معنوية، وأسلوب الاتفاق اجتماعيا وسياسيا ما بين المواطنين، فيلتزم الجميع بالقيم القانونية للدولة.

من دعائم الدولة المدنية هو تأسيس نظام مدني وقانون خارج عن تأثير القوى والنزعات الفردية أو المذهبية، تستطيع أن تنظم الحياة العامة وتحمى الملكية الخاصة، وتنظم شؤون الحياة، وأن تطبق القانون على جميع الناس بصرف النظر عن مكاناتهم وانتماءاتهم، وتمثل الدولة إرادة المجتمع.

كما أن على الدولة المدنية ان تحمي كل المجتمعات بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينة أو الفكرية، وهنالك عدة مبادئ ينبغي توافرها في الدولة المدنية والتي إن نقص أحدها فلا تتحقق شروط تلك الدولة، أهمها أن تقوم تلك الدولة على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، بحيث أنها تضمن حقوق جميع المواطنين، ومن أهم مبادئ "الدولة المدنية" ألا يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر، فهنالك دوما سلطة عليا هي سلطة الدولة والتي يلجأ إليها الأفراد عندما يتم انتهاك حقوقهم أو تهدد بالانتهاك فالدولة هي التي تطبق القانون وتمنع الأطراف من أن يطبقوا أشكال العقاب بأنفسهم. (راجع مقال احمد زايد، جريدة الشروق الجديد، تاريخ النشر ٢٦ شباط ٢٠١١).

أما موضوع الدين في الدولة المدنية، فإنه لا يجتمع مع الدولة المدنية، على ان لا تتعارض المدنية مع الدين، ولا تنصب العداء للدين. ترفض الدولة المدنية استخدام الدين لتحقيق اهداف سياسية، لانه يتنافى مع مبدأ التعددية التي تؤسس الدولة المدنية.

نرى ان هناك فروقات شاسعة بين المدنية والعلمانية، أهمها:

١- تعتبر العلمانية الدولة الاسلامية خطراً على وجودها، يجب محاربتها، فهي تعترف بوجود حكم اسلامي يمكن ان يكون حاكماً، بخلاف الدولة المدنية، حيث ترى بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه واله، لم يحدد شكل نظام الحكم. علاوة على ذلك، مدح رسول الله حكم ملك الحبشة و وصفه بالعادل، رغم نصرانيته.

٢- تتبنى العلمانية المساواة بمعنى فرض قانون واحد على الجميع دون اعتبار الاغلبية او الاقلية، بينما تدعو المدنية الى العدل فترى في الاغلبية الحق في تقرير المصير.

٣- يجب فصل الدين في التشريع والقوانين عند العلمانية، حتى لو عارض التشريع مبادئ الدين، اما في المدنية فتتبنى الاستحقاق الديمقراطي، فيمكن تشريع قوانين لا تتعارض مع الدين. كما يجوز للأغلبية الفائزة تعديل القوانين مع مراعاة حقوق الأقلية والحفاظ على الشكل المدني للدولة.

من هنا نقول، أن المرجعية العليا ترى أن افضل الحلول لواقع العراق هو الحكومة المدنية وليس الدولة المدنية كما يزعم البعض، فعندما سئُل عن رأيه في إقامة حكومة إسلامية، كان جوابه دام ظله: "إن من يكتب الدستور هم مسلمون، وبالتالي فإن مكوّنها الثقافي والحضاري والاسلامي، سيجد صداه وينعكس في الدستور". (راجع النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية ص ٢٤٨).

وفي موردٍ آخر، سُئِل المرجع، هل تؤيدون الحكم الاسلامي في العراق؟ وهل تحبون ان تكون دولة العراق مثل دولة ايران الاسلامية؟ فكان جوابه: "أما تشكيل حكومة دينية على أساس ولاية الفقيه فليس وارداً، ولكن يُفترض في الحكم الجديد أن يحترم الدين الاسلامي الذي هو دين أغلبية الشعب العراقي، ولا يُقر ما يخالف تعاليم الاسلام".  (راجع النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية ص ٢٤٧).

وفي تعارض الدولة المدنية مع تعاليم الاسلام، ركّز سماحته على وجوب عدم تعارض المدنية مع التعاليم الاسلامية، وتحترم الدين الاسلامي كما قال: "يفترض بالحكومة التي تنبثق عن إرادة أغلبية الشعب ان تحترم دين الاغلبية وتأخذ بقيمه ولا تخالف في قراراتها شيئاً من أحكامه". (راجع النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية ص ٢٤٨).

وعليه، يحدد المرجع الاعلى شرطين في الحكومة المدنية:

١- تحترم حقوق الانسان
٢- تحترم ثوابت الاسلام
(راجع محاضرة سماحة السيد منير الخباز https://m.youtube.com/watch?v=kUf-wYy5dQE)

حاول كاتب المقال أن يُوهِم القارئ بان المرجعية العليا في النجف الاشرف تدعو الى دولة مدنية علمانية، متناسياً، او جاهلاً بالفرق بين المدنية والعلمانية، وبين الدولة والحكومة.

وبهذا نقطع دابر كل من يتقول على رأي المرجعية العليا بأنه "يتبنى الدولة المدنية العلمانية".

أخترنا لك
كُنْ معي يا سيّدي

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف