لعل أشد ما يؤلم الباحث هو أن يرى جهوده تضيع على ضوء الحقائق التي
يكتشفها فيما بعد. فالكثير من البحوث والدراسات التي بذل فيها
العاملون عليها جهودا كبيرة تهاوت بعد اكتشافهم أن بحوثهم قامت على
أوهامِ كتبٍ ومصادرٍ تم التلاعب بها لتخدم غرضا معينا أو لإخفاء حقيقة
لا تعجبهم.
من بين تلك الأوهام التي تم تزويرها هي ما جاء في سفر إشعياء حيث
أضيفت كلمات للنص أخرجته عن سياق الوحي وجعلته يُمثل رغبة بشرية تحلم
أن ترى الوهم واقعا وعلى ضوء ذلك تم تحويل البوصلة.
نص سفر إشعياء يتكلم عن مدينة ستكون محط أنظار الأمم ومنها سيكون
خلاصهم من الظلمة التي نشرها الظالمون وعليها يقع رجاء الشعوب. ولكن
بني إسرائيل الخبراء بالمناطق والبلدان بسبب جولانهم في الأرض كونهم
بدو يطلبون الماء والكلأ لأغنامهم (1) فهم يمرون بمختلف المناطق، وقد
وضعوا عيونهم على أرض فلسطين التي يصفونها بأنها (فخر كل الأراضي).
فكان طلبهم دائما يُشير إلى هذه الأرض وكل النصوص المتعلقة بوراثة
الأرض تُشير إلى فلسطين مع أن نص سفر إشعياء لا يُشير إلى ذلك. فكان
طلبهم أن يمنحهم الرب أرضا (تفيض لبنا وعسلا).(2) وقد تكرر نص وراثة
هذه الأرض عشرات المرات.
أشار إشعياء إلى هذه المدينة بقوله : ( استنيري لأنه قد جاء نورك،
ومجد الرب أشرق عليك. لأنه ها هي الظلمة تغطي الأرض والظلام الدامس
الأمم. أما عليك فيشرق الرب، ومجده عليك يرى. فتسير الأمم في نورك،
والملوك في ضياء إشراقك).(3) ففي هذا النص إشارة إلى ارض (مديان).
التي يقول عنها مفسروا المسيحية بأنها تقع في المشرق استنادا إلى ما
جاء في سفر التكوين الذي يقول بأنها تقع في المشرق. ثم يُضيف المفسرون
بأنها تقع شرقا حول نهر الفرات. (4) وهذا القول اقرب إلى الواقع حيث
أن مدينة (الكوفة) تقع بالضبط على شاطئ الفرات.بينما أرض فلسطين التي
اختاروها تُناقض النص فلا فرات فيها. وسبب قولنا هذا هو أن كل المناطق
التي ورد ذكرها في نص سفر إشعياء هي مناطق صحراوية لا تفيض لبنا ولا
عسلا. ولذلك يُعتقد أن اسم مديان هو الأقرب للواقع لأنها تتمتع بهذه
الموصفات خصوصا إذا علمنا أن بني إسرائيل عاشوا في هذه المناطق سنين
طويلة أيام السبي وبعده ويعرفون جيدا تضاريس هذه الأرض ولا تزال
آثارهم باقية منتشرة في العراق وخصوصا بالقرب من الكوفة في منطقة
الكفل ومحيطها. وهناك الكثير من قبور أنبيائهم لا يزال شاخصا ومنها
(نبي الله الكفل). وعلى مقربة منه يقع قبر (النبي دانيال). (5) وإلى
زمن قريب كانوا ينتشرون بكثافة في أرض العراق خصوصا جنوب العراق .
ولكن بني إسرائيل بنو أحلامهم على مكان آخر وهو فلسطين فهي أيضا تفيض
لبنا وعسلا و(يسمنون) فيها. ولكنهم كما نقرأ في التوراة رفضوا أن
يدخلوها (لأن فيها قوما جبارين). ولكنهم زعموا في التوراة بأن الله لم
يشأ أن يُدخلهم ارض فلسطين (6) ولم يُدلهم عليها، فقد حرفوا النص لكي
لا يُقال عنهم بأنهم جبناء خافوا من دخول الأرض لان فيها جبارين. وسبب
آخر جعلهم يتحاشون أرض الكوفة هو إن بابل كانت مصدر ألم لهم فلا
يُريدون أن يتذكروا مآسيهم حتى أنهم لشدة ألمهم من بابل أطلقوا عليها
(بلد الزواني والرجاسات). ومن ذلك نفهم أن نبوءة إشعياء تتعلق بواقع
تم تحريفه بشكل مريع ، إشعياء تنبأ عن قيام شخصية عظيمة في كوفان
(العراق) يجعل اللبن والعسل يفيض على الناس في حكمه تعبيرا عن كثرة
الخيرات، هذا إذا أخذنا بنظر الاعتبار روايات المسلمين التي تقول بأن
جبل الطور يقع شرق الكوفة وقد دققت الروايات فوجدتها صحيحة قياسا إلى
اختلاف روايات التوراة واضطرابها.(7)
أما مفردات النبوءة ففيها إشارات لا تنطبق على أي حدث حصل لبني
إسرائيل لا قديما ولا حديثا حيث أن الروايات تتفق بشكل عجيب على أن
الذين يأتون هذه الأرض تصفهم بـ (هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام). وفي
أغلب روايات المسلمين فإن مهديهم سوف يأتي طائر بسبع قباب من نور أو
انه يرتقي السحاب ويطير في الأسباب، وأنهم يجتمعون كقزع الخريف
المنتشر المتفرق في السماء. إضافة إلى وصف آخر لم يتحقق لحد الآن ولا
اعتقد انه سوف يتحقق لبني إسرائيل على أرض فلسطين نظرا لازدياد كراهية
الشعوب لأفعالهم وما تنبأت عنهم توراتهم من أنهم سوف يُبادون في آخر
الزمان وان الرب سوف يُسلموهم لأعدائهم.والغريب أن يتهم الناس
المسلمون بأنهم يسعون إلى سبي بنات اليهود والنصارى مع أن كتابهم
المقدس يقول بذلك كما نقرأ : (غضب الرب على يهوذا وأورشليم، وأسلمهم
للقلق والدهش والصفير سقط آباؤنا بالسيف، وبنونا وبناتنا ونساؤنا في
السبي).(8) ولا يزال الكثير من جهلة النصارى والمسلمين يستهجنون مسألة
سبي هؤلاء مع أن الكتاب المقدس هو من يقول بذلك ، والأعجب للمسلم الذي
لربما لا يعلم بأن قرآنه يخلو من كلمة (السبي) بمعناها في الكتاب
المقدس. الذي يقول : (إذا خرجت لمحاربة أعدائك ودفعهم الرب إلهك إلى
يدك وسبيت منهم سبيا ورأيت في السبي امرأة جميلة الصورة، والتصقت بها
واتخذتها لك زوجة فحين تدخلها إلى بيتك تحلق رأسها وتقلم
أظفارها).(9)
المصادر:
1- القرآن حاكيا عن يوسف الذي قال لأبيه يعقوب: (الذي جاء بكم من
البدو). سورة يوسف - الآية 100 والتوراة تقول عنهم كما في سفر إشعياء
56: 11(وهم رعاة لا يعرفون الفهم).
2- نص وراثة الأرض تكرر كثيرا حتى بات يُمثل رغبة شخصية عند هذا الشعب
الذي أتعبه الجولان في الأرض ركضا وراء الماء والزرع طعام لحيواناتهم
ولذلك نرى غرابة نصوص وراثة الأرض التي طبعا لم يتم تحديدها ولكن
الأغرب أن الله اقسم لهم بأنه سوف يعطيهم هذه الأرض التي (تجسس) كثيرا
للعثور عليها. يقول النص : (أخرجهم من أرض مصر إلى الأرض التي تجسستها
لهم،تفيض لبنا وعسلا هي فخر كل الأراضي. فيأكلون ويشبعون ويسمنون).
سفر التثنية 31: 20. و : سفر حزقيال 20: 6.
3- سفر إشعياء 60: 3 بقية النص هنا : (ارفعي عينيك حواليك وانظري. قد
اجتمعوا كلهم. جاءوا إليك. يأتي بنوك من بعيد حينئذ تنظرين وتنيرين
ويخفق قلبك ويتسع، لأنه تتحول إليك ثروة البحر، ويأتي إليك غنى الأمم.
من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها؟وتنفتح أبوابك دائما.
نهارا وليلا لا تغلق. ليؤتى إليك بغنى الأمم، وتقاد ملوكهم لأن الأمة
والمملكة التي لا تخدمك تبيد، وخرابا تخرب الأمم. لا يسمع بعد ظلم في
أرضك، ولا خراب أو سحق في تخومك، أسوارك خلاصا وأبوابك تسبيحا. لا
تكون لك بعد الشمس في النهار، ولا القمر ينير لك مضيئا، بل الرب يكون
لك نورا أبديا وإلهك زينتك. وشعبك كلهم أبرار. إلى الأبد يرثون
الأرض).
4- اتفق المفسرون على ما يلي : (يصعب جدًا تعيين موقع وحدود بلاد
مديان. ففي سفر التكوين (25: 6 لا نجد إلا أنها كانت في أرض المشرق،
مما قد يعني أي مكان من جبل حرمون وشرقًا إلي نهر الفرات، وجنوبًا إلي
جنوبي شبة الجزيرة العربية).وهذه المواصفات تنطبق على قضاء كوثى في
النواحي التابعة لقضاء المحاويل في محافظة بابل في العراق. قاموس
الكتاب المقدس | دائرة المعارف الكتابية المسيحية شرح كلمة أرض مديان
| بلاد مديان.
5- أهم أنبياء بني إسرائيل توجد مزاراتهم وقبورهم في العراق وكلهم حول
بابل وما بعدها أمثال أنبياء الله : (يوشع في بغداد ، يونس في الموصل
و النبي جرجيس ،النبي شيث والنبي دانيال. النبي هود وصالح في الكوفة و
النبي خون ناقل التوراة في الكفل وكذلك النبي باروخ والنبي إدريس،
ونبي الله أيوب في بابل والنبي ذو الكفل او حزقيال، النبي شعيب في
الديوانية ، النبي عزير في العمارة).خارطة الأنبياء هذه المحيطة
بالكوفة تعني الشيء الكثير.
6- سفر الخروج 13: 17(لما أطلق فرعون الشعب لم يشأ الرب أن يهدهم إلى
طريق أرض مع أنها قريبة). فلسطين
7- علي بن إبراهيم، في معنى السورة قوله: (والتين والزيتون وطور سينين
وهذا البلد الأمين) التين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سينين
الكوفة، وهذا البلد الأمين مكة. وسينين، وسيناء واحد، ومعناه الجبل
المبارك الحسن بلغة النبط.بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٥٧ –
الصفحة 205 .و : معاني الأخبار: ٣٦٥، الخصال: ١٠٥.
8- سفر أخبار الأيام الثاني 29: 8.
9- سفر التثنية 21: 11. وردت كلمة السبي ومشتقاتها بأبشع صورها أكثر
من ستين مرة في الكتاب المقدس في حين يخلو القرآن من ذلك.والغريب أن
أكثر من يستهجن ويُناقش (السبي) هم المسلمون مع أن قرآنهم يُبرأهم من
ذلك. وحتى لو حصل السبي في المعارك الأخيرة فلربما يتم تطبيق ما في
كتابهم المقدس من أحكام عليهم كما فعل النبي في معركة بني قريضة حيث
اختار اليهود سعد بن معاذ الذي كان حليفهم فحكم فيهم بحكم التوراة :
قتل المقاتلين وسبي الباقين.
أخترنا لك
