كانت لي صديقة مسيحية تزورني بين فترة وأخرى وكان زوجها اسمه يوحنا
منصور ساكو(1) وكان كثير التردد مع عائلته على الحسينيات في كندا
وكانت اكثر زياراته أيام عاشوراء ويختمها يوم الأربعين فكان يجلس بصمت
إلا من تعليق مقتضب هنا وهناك. وأغلب الحضور لا يعلمون أنه مسيحي.
فقلت له يوما أثناء زيارتهم لبيتي وكانت أيام عاشوراء: اخ يوحنا ، هل
تعرف قصة يوحنا المعمدان ؟ فوجم واصفر لونه ولاحظت ذلك عليه . فقلت له
: ماذا جرى هل ازعجك السؤال؟ قال لا ابدا ولكني مجبر على الاجابة على
سؤالك وكانت زوجته تجلس إلى جواره، ويبدو أنها تعجبت لانها لا تعلم ان
لزوجها قصة لا تعرفها.
قال : كانت امي عاقر وابي يحبها حبا شديدا فهي التي خلقت منه شخصا بعد
ضياع وكان بيتنا في ناحية برطلة المسيحية في الموصل.
تقول أمي التي حكت لي قصة تسميتي بيوحنا .
خرجت ذات يوم إلى بيت اختي التي تسكن في قرية للشبك (علي رش) وقرب
الظهيرة سمعت اصوات وبكاء وصياح ، فقلت لأختي : ما هذه الاصوات؟ قالت
هؤلاء الشبك اليوم عندهم احتفال قتل أحد عظمائهم . تقول أمي : مددت
رأسي من الشباك وإذا بي وجها لوجه مع رأس مرفوع على خشبه صغيرة ( رمح)
وهو ملطخ بالدم ولكنه جميل جدا شعره فاحم وعيونه شابحه إلى السماء
وشفتاه ذابلتان والناس يلطمون تحته بكل حزن . فقلت لأختي : عجيب هذا
رأس يوحنا المعمدان يحمله المسلمون ؟ ثم قلت مع نفسي اخاطب ربي : يا
رب ان المسلمين احبو يوحنا ويحتفلون بذكرى موته فارزقني بيوحنا. ثم
اخذتني موجة من البكاء واصابتني رعدة شديدة فحملوني ووضعوني في
الفراش. فنمت حزينة كسيفة البال وإذا بي أرى رؤيا : راس يطوف فوق مهد
خال ثم دخل الرأس في المهد. ففزعت واستيقضت ، وحكيت الرؤيا لأختي التي
لم تهتم كثيرا. وفي اليوم التالي رجعت إلى بيتي ولكن الغريب أن الحزن
لم يُفارقني .
ثم تتالت الأيام واصبت بدوار شديد وقيء لا اعرف سببه ولم افكر بزيارة
الطبيب بل كنت اتناول بعض شراب الاعشاب. ولكن الالم في بطني تفاقم
فاخذني زوجي إلى الطبيب ليقول له : اعطني البشارة زوجتك
حامل.
وهكذا كان يوحنا. وهكذا كنت أنا . فقلت له : ولكن لماذا اختارت امك
اسم يوحنا وليس حسين. فسكت مليا ثم اخرج بطاقته الشخصية واعطاني إياها
وإذا بإسمه (يوحنا حسين منصور ساكو). فنظرت إلى زوجته التي بكت ودفنت
رأسها تحت ابطه.
يقول الشاعر جوزيف حرب.
(مدي الوسادة الزينبيَّة ، فلقد أقبل الليل ، ورجعت من كوفة الزمن
القديم .. هبيني كربلاء أُرح رأس الحسين على يديَّ .. أنا لستُ من
أنزل الحُسين في العراء من غير ماء وغير حصن . . ولست من شكَّ سيفه
بين منكَب الحُسين وعنقه .. ولستُ يا كربلاء من قطعَ الكتف اليُسرى ..
أنا لستُ الأبرص بن ذي الجوشن أحزّ بالسّيف في عنقِ الحُسين . . ولست
من أوطأ الجياد عظام صدرِه . . ولست عبيد الله بن زياد أضربُ ثناياهُ
بِعصا الملك . . ولستُ جند عمر بن سعد أطوف بالرّأس وهي على الرّمح في
مسالِك الكوفة ولست يزيد بن معاوية أنكت بقضيب العرش في شفتي الحُسين
الّلتين قبلتهما شفتا الرّسول الكريم.. حتى ارتوتا من عبير ريحانة
الجنّة. هبيني كربلاء.. أُرِح رأس الحُسين على يديَّ . هبيني سراويله
اليمانيَّة التي مزّقها كي لايقتسمها من بعده القتلة.هناك تداخلٌ حتى
الذوبان بين رأس يوحنا والحسين بعد القطع . . وبين رأس يوحنا على طبق
، ورأس الحسين على رمح .(2)
المصادر :
1- استأذنت منه لنشر اسمه.
2- مقطع من بكائيَّة رأس الحُسين للأديب الشّاعر الّلبناني المسيحي
جوزيف حرب.رئيس اتحاد الكتاب اللبنانيين ، نال العديد من الجوائز. ولد
عام 1944 وتوفي 2014. من كتبه : عذارى الهياك وله العديد من الدواوين
الشعرية، منها: شجرة الأكاسيا ،مملكة الخبز والورد وقد اشتهرت قصيدته
(بكائية رأس الحسين) في لبنان وبعض الاقطار.