شعر موسى باقتراب اجله فرفع نظره إلى السماء : (( فكلم موسى الرب
قائلا : ليوكل الرب إله أرواح جميع البشر رجلا على الجماعة يخرج
امامهم ويدخل امامهم ويُخرجهم ويُدخلهم ، لكيلا تكون جماعة الرب
كالغنم التي لا راعي لها )) (1) وهذه هي امنية جميع الانبياء ان
يخلفهم من بعدهم شخص يختاره الرب كما في طلب محمد نبي الاسلام عندما
قال لربه : ((اللهم اني أسألك بما سألك أخي موسى فاجعل لي وزيراً من
أهلي علياً أخي أشدد به أزري)) (2) فمسألة اختيار الخليفة لا تكون
بمشورة الناس او انتخابهم بل بطلب من النبي واختيار من الله الرب
ولذلك اجاب الرب موسى قائلا له : (( خذ يشوع بن نون وضع يدك عليه
وأوقفه قدام كل الجماعة وأوصه أمام أعينهم واجعل من هيبتك عليه ففعل
موسى كما أمره الرب . أخذ يشوع وأوقفه قدام ليعازر الكاهن وقدام كل
الجماعة ووضع يديه عليه وأوصاه كما تكلم الرب عن يد موسى)) .(3)
وهذا نفسه حدث في المسيحية عندما اختار يسوع بطرس بأن يبني كنيسته
ولكن الجماعة ارتدوا بعده واختاروا بولص وصاحبه سيمون الساحر . فعلى
الرغم من علم الناس أن الاختيار كان بأمر الرب وأن النبي لا يفعل
شيئا من عنده إلا ان الناس لم يعجبهم ذلك واضمروا شرا يبدونه بعد
رحيل النبي ولذلك كان اليعازر وصاحبه على رأس من انقلب على وصي
موسى. وتبعهم الشعب في ذلك وعينوا عليهم خليفة من اختيارهم وتركوا
من اختاره الرب ونبيه الوصي ( يوشع) جالسا في بيته (4) (( بغوا هم
وآباؤهم وصلّبوا رقابهم ولم يسمعوا لوصاياك وأبوا الاستماع، وعند
تمردهم أقاموا رئيسا ليرجعوا إلى عبوديتهم وعصوا وتمردوا عليك
وطرحوا شريعتك وراء ظهورهم ، وعملوا إهانة عظيمة)) .(4) وهكذا بدأت
مسيرة افتراق الأمة فكانت في بداية أمرها فرقتين . فرقة تبعت
اليعازر وصاحبه . وفرقة تبعت يوشع بن نون وهم الفئة القليلة
المستضعفة .
مات موسى وخلّف تركة ثقيلة جدا لوصيه الذي حافظ على هدوئه لكي لا
يُحدث في الدين شرخا يُطيح بالرسالة وصبر على سلبه حقه وكابد يوشع
كثيرا من اجل الحفاظ على الفئة المؤمنة الصابرة التي وقفت معه . لأن
المنشقين كان عندهم استعداد للقتل من اجل الحفاظ على المكاسب التي
حصلوا عليها نتيجة انقلابهم على الرسول والمرسل والرسالة. كان يشوع
مشهورا بالشجاعة والحكمة (5)
اختار المنشقون لهم مذهبا طرحوا فيه كتاب الرب (التوراة) المدون
المكتوب . وشككوا فيه واعتبروا ان قسما كبيرا منه ضاع والقسم الاخر
اكل بعضه ((الداجن)) فتمسكوا بالشريعة الشفوية التي وضعوها (سنة
الشيخين) اليعازر وصاحبه.
وهكذا انقسمت الأمة ودارت نزاعات حادة بين مؤيّدي الشيخين
الفريسيين، والرافضين لشريعتهما الجديدة الصدوقيون . فقد روّج
الفريسيون للشريعة الجديدة واعتبروها من شروط استلام الحكم وقد قاوم
الصدوقيون هذا الاتجاه ووقفوا بوجهه ورفضوه رفضا قاطعا. واستمر هذا
النزاع الذي ادى الى ذبح الكثير من الصالحين حتى زمن يسوع الذي رفض
رفضا قاطعا ما جاء به الفريسيون واخذ يبث تعاليم جديدة بين تلاميذه
. ولكن الفريسيين جاؤوا وقالوا له : (( حينئذ جاء إلى يسوع كتبةٌ
وفريسيون قائلين . لماذا يتعدى تلاميذك على تقليد الشيوخ ... فأجاب
وقال لهم لماذا تتعدون وصية الله بسبب تقليدكم ....لقد أبطلتم وصية
الله بسب تقليدكم يا مرائين . حسنا تنبأ عنكم إشعياء قائلا يقترب
الي هذا الشعب بفمه واما قلبه فمبتعد عني بعيدا وباطلا يعبدونني وهم
يُعلّمون تعاليم هي وصايا الناس)) . (6)
وهكذا ثبت على لسان النبي ان كل اعمال المنشقين باطلة وكل عملهم ليس
من الرب إنما من الناس فكل ما جاء في صحاح الفريسيين : قال فلان ,
وعن فلان وروى فلان ، ورأيت فلان . لقد أبتكر الفريسيون بدائل جديدة
للدين الذي جاء به نبيهم فاتحين الباب للتقليد والتفسير بأن يحلا
محل الشريعة المكتوبة التي جاء بها موسى . وفسح ذلك المجال امام كل
من هب ودب لوضع الحديث وقلب الحقائق وكتبوا كتبا زعموا انها مقدسة
فكان أول هذه الكتب (المشناه) التي زعموا انها اقدس من كتاب الرب او
مساوية له وكل ما جاء فيها من احاديث صحيح. ثم اضافوا تشريعات أخرى
وجمعوها في (اصحاح) ثاني اطلقوا عليه (التلمود) وهكذا تتالى كتابة
هذه الاصحاحات وقد أدى ذلك إلى تتالي الانقسامات. فأولدت المذاهب
مذاهب اخرى فكانت سلطة أو مذهب الربانيين ، ومذهب الكنيسة من جهة
أخرى .
ولكن لم يطل الامر حيث هرع المخلصون إلى التدخل وبطشوا بكبير
الفريسيين وقتلوه . وجاؤوا إلى (عانان بن داود ) يركضون طالبين منه
ان يُنادي بالرجوع للشريعة وأن يكون الحق لكل مؤمن ان يدرس الشريعة
التي جاء بها موسى وليس ما جاء به الفريسيون . واعتبروا الشريعة
المصدر الوحيد للدين الحقيقي . ونتيجة لذلك اصبح شيعة (عانان)
يُعرفون بالـ (قارائيم) والتفوا حوله وكونوا النواة الأولى للشيعة
التي لولاها لذهب الدين هباء .
ومات (عانان) مقتولا وخلفه ابنه وهكذا تتالى استلام احفاد هذا
الامام السلطة الروحية من بعده ، ولكن خصومهم من شيعة الفريسيين لم
يعجهم هذا الاتجاه الجديد فرفعوا من القراء والمحدثين اماما مقابل
كل امام ينهض باعباء المسؤولية وكان النزاع شديدا والهجوم عنيفا
وكان اول هؤلاء الائمة المزيفين (سعديا بن يوسف) الذي صار رئيسا
للمحدثين في بابل وما حولها في القرن العاشر الميلادي . وقد ترجم
(صموئيل روزنبلات ) المؤلف الرئيسي لسعديا ، كتاب المعتقدات والآراء
، فقال : رغم أن صحيح سعديا كان المرجع في أيامه . إلا ان هناك فئة
عظيمة رفضته مما اضطر إلى رفده بصحيح آخر قام بكتابته (موسى بن
ميمون) في القرن (12) مما أدى إلى اضعاف حجة الصدوقيين .
ولكن مما يُحزن له أن حركة الصدوقيين وبسبب افتقارهم إلى الوحدة
وتدابير المقاومة الحسنة التنسيق ، فقدوا زخما وخسروا الكثير من
أئمتهم الروحيين. ولكن مع كل ذلك حافظ القراؤون على كيانهم بصعوبة
بالغة وسط بحر هائج من التآمر عليهم وقتل مريع فيهم وذبح على الهوية
والانتماء ولكن مع ذلك فلا يزال هناك مئآت الألوف منهم في إسرائيل .
وعدة آلاف في مجتمعات أخر ، معظمهم في روسيا والولايات المتحدة ،
واليمن ، والمغرب وإيران ولكن من كان منهم في العراق وغيرها من
البلدان تم تهجيرهم إلى اسرائيل . وقد شكل هؤلاء الشيعة الصدوقيون
فرقة مهمتها محاربة كل البدع التي جاء بها الفريسيون فشكلوا فرقة (
ناطوري كارتاه) التي تحارب الافكار الماسونية والصهيونية وتقف مع
العرب في قضاياهم العادلة .
المصادر والتوضيحات ــــــــــــــــ
1- سفر العدد 27: 18
2- ذكر هذا الحديث اكثر من (22) مصدرا من مصادر اهل السنة والجماعة
ناهيك عن مصادر الشيعة .
4- سفر نحميا ، الاصحاح 9 : 17.
5- فقد مدح الرب في كتابه يوشع بن نون مدحا كبيرا لائقا به ولم يمدح
وصيا غيره إلا وصي محمد ، حيث اختار موسى وصيه منذ ان كان فطيما
صغيرا يتعهده بالرعاية فكان يتبعه غلاما يافعا اتباع الفصيل اثر
امّه يرفع له في كل يوم من اخلاقه النبوية علما ويأمر يوشع
بالاقتداء به كما جاء في (سفر الخروج 33: 11 ) فكان هذان الوصيان
على درجة عظيمة من الحكمة والشجاعة ، ارجع الرب الشمس لهما من دون
خلقه . فقد جاء في سفر يشوع بن سيراخ 46: ((كان يشوع بن نون رجل باس
في الحروب خليفة موسى في النبوءات وكان كاسمه عظيما في خلاص مختاريه
شديد الانتقام على الاعداء المقاومين ما اعظم مجده عند رفع يديه
وتسديد حربته من قام نظيره من قبله ان الرب نفسه دفع اليه الاعداء
الم ترجع الشمس الى الوراء على يده دعا العلي القدير اذ كان يهزم
الاعداء من كل جهة)).
6- إنجيل متى الاصحاح 15 : 1 ـ 9