جزء متمم لموضوع (منصب البابا بين السيمونية والرشوة العلنية)

2021/01/19

 
لربما لا يعرف أحد . أو الأصح لا يُريد أحد في المسيحية برمتها أن يعرف أو يطرح هذا السؤال: من هم أولئك الذين يقبعون في الظلام يتربصون لكل مصلح ليس في المسيحية وحدها بل في كل العالم. فلا يجرأ احد على ذلك . من هم هؤلاء الذين لهم القدرة أن تمتد أيديهم حتى إلى رؤوس الهرم في أعلا سلطة في العالم سياسية كانت أو دينية فتقوم بتصفيتهم أو إسقاطهم . وإذا عجزت فإنها تستعين بخصومهم من غير دينهم للإيقاع بهم وقتلهم شر قتلة. 
أشباح الظلام هذه لها القدرة على رفع من تشاء رفعه وخفض من تشاء خفضه . ابتداء من أمريكا وأوربا وحتى إمارة عجمان وأم القيوين. ما عدا استثناءات قليلة خرجت عن سيطرتهم بدعم شعوبهم ولكن إلى حين. 
تعال معي لنقرأ معا الحوادث المروعة التي تعرض لها (البطريرك لوكاريوس) على يد هذه القوى الظلامية بسبب مناداته بالإصلاح وطباعة الكتاب المقدس بلغة يفهمها الناس. 
أسباب كتابة هذا البحث ؟
عندما نشرت بحثي (منصب البابا بين السيمونية الخفية ، والرشوة العلنية) عاتبني الكثير من الآباء من الذين يكنون لي احتراما خاصا ، لكوني نشرت مثل هذه الحقائق التي تُسيء إلى منصب أعلا سلطة دينية في العالم المسيحي ولكني قلت لهم بأن هذه حقائق لا يجب إخفاءها لعل هناك من ينتبه فيُبادر للإصلاح . وقلت لهم الذي لا تعلموه أني لم ا نشر بقية البحث الذي فيه تكملة للبحث الأول وفيه من الحقائق ما لا يُمكن إخفاءه. فإذا كانت الدولة البريطانية تطلق سراح الوثائق بعد مضي ثلاثين سنة عليها وتضعها بين أيدي الناس وهي دولة علمانية، فلماذا تُحاول السلطة الدينية إخفاء ماضيها ووثائقها عن الناس وتعاقب من يُثير هكذا مواضيع؟ أليست هذه تجارب يجب الاستفادة منها لتدارك التدهور الحاصل في المسيحية برمتها؟ ثم أرسلت لهم الجزء الثاني من البحث ـــ وهو هذا البحث ـــ وقلت لهم : لا يستطيع احد أن يوقف إيزابيل عن قول الحق فعلم اللاهوت الذي درسته علمني أن لا أتستر على الأخطاء بل دراستها ووضع الحلول لها.وانتم تعرفون اللاهوتيين جيدا. 
لم يأتني ردهم على الجزء الثاني ولكني علمت أنه ترك تأثيرا على بعضهم خصوصا وهم يقرؤون ولأول مرة الظلم المريع الذي كان يتعرض له كل مصلح أراد خيرا لمعتقده. 
وهذا هو الجزء الثاني الذي هو في الحقيقة تابع لموضوع (السيمونية).
اعتاد الصيادون المسلمون أيام الدولة العثمانية من عام (1638) على الصيد في بحر مرمرة في القسطنطينية ــ استانبول اليوم ــ لكنهم في هذا اليوم اصطادوا جثة رجل خُنق بحبل وكانت الجثة مثقلة بالحديد ومرمية في قعر البحر والحبل لايزال في عنق الضحية .وعندما تم فحص الجثة ارتاع الجميع وخافوا، لأن صاحب الجثة هو (بطريرَك القسطنطينية المسكوني ورأس الكنيسة الكاثوليكية سيريول لوكاريوس) وهو من ابرز شخصيات القرن السابع عشر. (1)
درس لوكاريوس أولا في البندقية ثم في إيطاليا ثم تنقل في كنائس كثيرة وكان ذو ذكاء وقّاد ونظر ثاقب فرأى الحالة المزرية للكنائس المسيحية وحالة الجهل المتفشية بين المسيحيين ورجال دينهم واستاء كثيرا من الشقاقات التي كانت تحصل بين كبار الآباء فيتضرر منها صغار الناس والتي أدت بسبب الاختلاف في الرأي إلى رفع منابر الوعظ في الكثير من الكنائس. 
في سنة (1602) ذهب لوكاريوس إلى الإسكندرية لكي يستلم منصب بطريرك الإسكندرية بدلا من نسيبه البطريرك (ميلتيسوس) وخلال ذلك اخذ بمراسلة عدد كبير من اللاهوتيين في أوربا المهتمين بالإصلاح ثم كتب رسالته الشهيرة التي يذم فيها الممارسات الخاطئة التي تُمارسها الكنيسة وخصوصا عبادة الأشخاص والإيقونات. وطالب البابوات باعتماد بساطة يسوع في الإنجيل . والذي أزعج لوكاريوس كثيرا هو أن سلطة آباء الكنيسة الروحية يُقام لهم وزن مساوٍ لشخصيات الأنبياء وكتب في مقدمة احد رسائله : (ما عدت احتمل سماع أشخاص يقولون أن كلام البابوات يُعادل ما جاء في الكتاب المقدس قيمة . وأن عبادة الأصنام كارثة وأن الابتهال للقديسين هو اهانة ليسوع). (2)
بسبب المواقف النبيلة وسبب بغضة لممارسات الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، صار مبغضا ومضطهدا من قبل الآباء اليسوعيين ومن قبل أشخاص في الكنيسة الأرثوذكسية.ولكن على الرغم من هذا البغض الشديد لشخص لوكاريوس تم انتخابه سنة (1620) بطريركا للقسطنطينية. 
هنا برز دور (مجمع انتشار الإيمان) المخيف الواسع النفوذ في قيادة عملية الافتراء والتآمر على لوكاريوس وكانوا يتوسلون بأرذل الوسائل من اجل عزله والإطاحة به وأسلحتهم في ذلك : المكر ، الافتراء ، التملق، والرشوة . عن طريق إغراء السلطة العثمانية بمبالغ طائلة لشراء منصب كرسي البطريركية في القسطنطينية التي كانت خاضعة لسلطة آل عثمان الذين كانوا يعزلون على الفور أي بطريرك وتعيين واحدا جديدا مقابل مبلغ من المال وأيهم يدفع أكثر يكون الكرسي المقدس من نصيبه. هذه كانت أمضى أسلحت مجمع انتشار الإيمان المسيحي لكسب ود العثمانيين.
ونتيجة لذلك تم نفي البطريرك لوكاريوس سنة 1622 على جزيرة رودس . واشترى الأب (غريغوريوس الأماسيّ) المنصب مقابل أن يدفع (20000) ألف قطعة فضية. ولكن غريغوريوس لم يتمكن من جمع المبلغ . فدفع الأب (أنثيموس الأدرني) المبلغ واستلم كرسي البطريركية. 
ولكن الذي حدث أن اللاهوتيين في أوربا والكثير من عامة الشعب اجبروا العثمانيين على إعادة لوكاريوس إلى منصب البطريركية. 
قام لوكاريوس على الفور بمحاولات عديدة لبث الوعي بين أتباع الكنيسة فقام أولا بفتح دراسات لتثقيف رجال الدين الأرثوذكس وقام على الفور بمشروع ترجمة الكتاب المقدس إلى لغة يفهمها عامة الناس وكان هذا ذنبٌ لا يُغتفر. ولكن الجرم الأكبر الذي ارتكبه الأب لوكاريوس هو محاولة شراءه مطبعة من ألمانيا بحماية السفير الإنكليزي لتصل إلى القسطنطينية لكي يطبع بها الكتاب المقدس ويوزعه على الناس. ولكن الحساد والمبغضون للوكاريوس أشاعوا بأن هذه المطبعة هي لطباعة المنشورات السياسية ضد سلطة الباب العالي العثماني وأعطوا الرشوة لحاشية السلطان فقاموا بتدمير المطبعة. فاضطر لوكاريوس إلى الاستعانة بمطابع جنيف. كان الأب لوكاريوس يعلم جيدا أن لغة الكتاب المقدس القديمة اليونانية الأصلية لم تعد مفهومة إطلاقا حتى على رجال الدين الجدد فأوصى لوكاريوس الراهب المثقف (مكسيموس كاليبوليتس) بالشروع بترجمة الكتاب المقدس في سنة (1629) ولكن هذا العمل اثار اعتراضات كثيرة من أساقفة كثيرين واعتبر جريمة كبرى بحق الكتاب المقدس الغير مصرح بلمسه من قبل عامة الناس. 
ولكن الكتاب المقدس المترجم من قبل لوكاريوس لم يُطبع في حياته نظرا لكثرة الموانع والعراقيل التي وضعت في طريقه ، ولكن تم بعد وفاته طباعته بالخفية وتوزيعه على الناس سنة 1638. 
وبينما كان البابا في روما منغمسا بـ (اللواط) مع سكرتيره والذي قتله جراء ذلك مرض السفلس كان لوكاريوس يُجاهد من أجل الإصلاح فقام بتأليف كتاب (مجاهرة بالإيمان) وطبعة في جنيف سنة (1629) عبّر فيه عن الإيمان الصحيح الذي يجب على الكنيسة أن تنشره بين الناس والذي انتقد فيه بكل وضوح التعاليم المتعلقة بالكهنوت وجرّد التعاليم المتعلقة بالرهبنات المقدسة الأرثوذكسية من كل معانيها واستنكر تكريم وعبادة الإيقونات والابتهال إلى القديسين واصفا إياها بالصنمية). (3) مبررا ذلك بقوله : يجب أن لا نسجد للمخلوق بل لخالق وصانع السماوات وحده، ونحن نرفض عبادة الإيقونات وخدمتها، الأمر الذي تُحرمه الأسفار المقدسة خشية أن ننسى ونعبد الألوان والفن والمخلوقات لا الخالق والصانع.
اضطرت اعمال لوكاريوس الإصلاحية الكثير من حسادة إلى التحرك باتجاه العثمانيين لعزله فقام الأب (سيريل كونتاري) رئيس أساقفة بيريه ــ هي مدينة حلب اليوم ـــ وبدعم من اليسوعيين أن يعقد صفقة مع العثمانيين ليحصل على الكرسي البطريركي ، ولكن خطته فشلت لعدم قدرته على دفع المبلغ الذي طلبه العثمانيون.ولكن الأب (اثناسيوس التسالونيكي) دفع (60000) ألف قطعة من الفضة ليحصل على الكرسي البطريركي فتم عزل البطريرك لوكاريوس .ولكن الضغط الشعبي اجبر العثمانيين على إعادة لوكاريوس إلى منصبه مرة أخرى.
ولكن (سيريل كونتاري ) كان بالمرصاد حيث استطاع أن يجمع جزء كبير من المبلغ ويشتري الكرسي من العثمانيين . فتم طرد لوكاريوس ونفيه إلى جزيرة رودس. ولكن بعد أشهر قليلة تم إعادة لوكاريوس بعد أن عجز كونتاري عن دفع بقية المبلغ. 
ولكن أنى لخصوم لوكاريوس أن يهدئوا فقام هذه المرة اليسوعيون والأرثوذكس بتلفيق تهمة الخيانة العظمى للدولة العثمانية للوكاريوس ، وهذه تهمة لا يتساهل معها العثمانيون فصدر الحكم على لوكاريوس سنة 1638 بالإعدام فاعتقل ووضع على متن سفينة صغيرة كما لو أنه يُرسل إلى المنفى تحاشيا من الاصطدام مع محبيه وأتباعه. ولكن في عرض بحر مرمرة وقبالة سواحل استانبول خُنق في حبل وتم وضع الأثقال في جثته ورميها في البحر ولكن الصيادون اخرجوا جثته عن طريق الصدفة فقام أتباع لوكاريوس بدفنه، ودُفنت معه أسرار حقبة كاملة من التآمر المشين والقذر والتي قام بها معارضو لوكاريوس من أتباع الكنيسة نفسها التي ينتمي لها.
وبعد أكثر من أربعين عاما على وفاته اجتمع مجمع (السنودس) في فلسطين وحرم كل المعتقدات التي كتبها لوكاريوس في كتابه واعتبرها هرطوقية. ثم نُبش قبره وتم استخراج ما تبقى من جثته وإحراقها في محفل عام ونثر رماده في البحر.
لقد نجحت الطبقة الاكليريكية بعملها هذا الإبقاء على الجهل متفشي بين الناس.وخنقوا بوحشية بالغة صوتا دل على أخطاء معتقداتهم وكان هذا جرما لا يُغتفر. 
ومع الأسف أقول أن كل ما قرأتموه آنفا لا يزال يجري بحذافيره في كنائسنا ومن أعلى المستويات ولكن بطرائق مختلفة. 
وما خفي كان أعظم. 
إيزو . ستوكهولم. 
المصادر والتوضيحات ـــــــــــــــــ
1- الدكتور EC باتريك كتاب ليوكاريوس سيريول Lucarius: كنيسة القسطنطينية . وكذلك يُمكن مراجعة ويكيبيديا سيريول لوكاريوس Lucarius . اسمه يُكتب أيضا بالتخفيف .
2- موسوعة المعرفة الدينية المجلد الثالث، تأليف وشاف هرتسوغ ترجمة فيليب شاف . 
3- انظر كتاب الكنيسة الأرثوذكسية وليم بتراوس ،المطبوع باللغة الإنكليزية وهو كتاب مشهور في مكتبات بريطانيا برمتها ويُعرف من عنوانه.
أخترنا لك
الفرق بين طغاة الكفرة وطغاة المسلمين.

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف