أولاً: تحديد مفهوم القرآن الكريم:
القرآن الكريم هو كتاب الله سبحانه وتَعالى، الذّي أنزله على نبيه
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ألفاظاً ومعاني وأسلوباً، وأعتبره
قرآنا دون أنْ يكونَ للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) دخلٌ
في إنتقاء ألفاظه أو صياغته.
فليس منه ما أنزله تَعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من
الأحكام وأداها بأسلوبه الخاص، كما ليس منه ما ثبتَ من الحديث
القدسي، وهو ما أثر نزوله على النَّبِيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)
ولم يثبت نظمه من قبله في سلك القرآن، وكذلك ما نزل من الكتب
السماوية على الأنبياء السابقين كالتوراة والإنجيل والزبور، لعدم
أعتبارها قرآنا، كما أنّ تفسير القرآن الكريم وترجمته ليسا من
القرآن في شيء، فلا تجري عليهما أحكام القرآن الخاصة.
وهذه الأُمور موضع أتفاق المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وعلى هذا
فالقرآن الكريم هو خصوص ما بين الدفتين دون أنْ يزادَ فيه حرفٌ أو
ينقصَ منه، ولقد أُحصيت آياته فبلغتْ (ستةُ آلاف وثلاثمائة واثنتين
واربعين آية)، ونزوله تدريجياً على النَّبِيّ الأكَرَم (صلى
الله عليه وآله وسلم) مبتدأ بأول آية {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الَّذِي خَلَقَ} [العلق : 1]، وأُختتم بأخر آية: {الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة : 3]، وقد أُنتظمت
هذه الآيات في سورٍ بلغَ مجموعها ماْئة وأربع عشرة سورة، أولها سورة
الفاتحة وآخرها سورة الناس.
ثانيا: حجية القرآن الكريم:
تكمن حجية القرآن الكريم في أمرين هما:
أولهما: ثبوت تواتره؛ أي بطريقِ النقل الذّي يفيدُ القطع بصدوره،
وبصحة الرواية، وهذا لا يشك فيه مسلمٌ أمتحن الله قلبه للإيمان،
ويتفرعُ عن هذا أنْ بعض القراءات التي تروى بغير طريقِ التواترِ كما
يقال: وقرأ بعض الصّحابة كذا لا تعدُ قرآناً ولا ثبتُ لها
أحكامه.
ثانيهما: ثبوت إعجازه، مما يدلل على نسبته لله تَعالى، وعقيدةُ
المسلمين قائمةٌ على ذلك، وحسبهم حجة إعجازه بأسلوبه ومضامينه
وتحديه لمن حوله إذ إنّ العربَ برعتْ في البلاغة، وأمتازتْ
بالفصاحة، وبلغتْ الذروة في فنون الأدب، حتى عقدتْ النوادي وأقامتْ
الاسواق للمباراة في الشعر والخطابة، فكان المرءُ منهم يقدّر على ما
يحسنه من الكلام، وبلغ من تقديرهم للشعر أنْ عمدوا لسبع قصائد من
خيرة شعرهم، وكتبوها بماء الذهب في القباطي، وعلقتْ على الكعبة،
فكانَ يقال هذه مذهبة فلان إذا كانت أجود شعره، مع كل هذه المكنة
والقدرة، فقد نكلوا عن مجاراته، وثبت عجزهم عن الإتيان ببعضه فضلا
عن كله، قالَ تَعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}
[الإسراء : 88]، وكذا أخباره بالمغيبات التي ثبت فيما بعد صدقها
ومطابقتها لما أخبر بها كما ورد في سورة الروم وغيرها، وارتفاعه عن
مستوى عصره بدقة تشريعاته إلى ما هنالك مما يوجب القطع بسموه عن
قابليات البشر مهما كان لهم من الشأن.
ثالثاً: أحكام القرآن الكريم:
أرسل الله سبحانه وتَعالى النَّبِيّ الأكَرَم (صلى الله عليه
وآله وسلم) ليصلح أعوجاج الأمة ويعالج أمراضها ويبرئ أسقامها وعلى
جميع الأصعدة، فالدين الإسلامي هو دين حياة وممات ودين دنيا وآخرة،
فجاءت أحكام القرآن الكريم على نوعين: أحكام يراد بها إقامة الدين،
وهذه أحكام العقائد والأخلاق، وأحكام يراد بها تنظيم الدولة
والمجتمع وتنظيم علاقات الافراد بعضهم ببعض، وهذه تشمل أحكام
المعاملات والعقوبات والأحول ...الخ، ويمكن فهرستها على النحو
التالي:
أحكام عقَدية: وهذه الأحكام تتعلق بما يجب على المكلف إعتقاده في
الله والملائكة والكتب والأنبياء والمعاد.
أحكام خُلقية: وهذه الأحكام تتعلق بما يجب على المكلف أنْ يتحلى به
من الفضائل والكمالات وأنْ يتخلى عن الرذائلِ والموبقات.
أحكام عملية: وهذه الأحكام تتعلق بما يصدر عن المكلف من أقوال
وأفعال وعقود وتصرفات، ويسمى هذا النوع من الأحكام بـ(فقه القرآن)
او (آيات الاحكام)، وهو المقصود الوصول إليه بعلم أصول الفقه.
والأحكام العملية في القرآن الكريم تنظم نوعين: منها يقصد تنظيم
العلاقة بين المكلف وربه وهي: أحكام العبادات من صلاة وصوم و زكاة
وحج ونذر ويمين ونحوها، ومنها: ما ينتظم العلاقة بين المكلفين بعضهم
ببعض، سواء كانوا افراداً أم جماعات أم امماً وهي: أحكام المعاملات
من عقود وتصرفات وعقوبات وجنايات وغيرها، والأحكام ما عدا العبادات
تسمى في الاصطلاح الشّرعي أحكام المعاملات، وأما في إصطلاح المعاصر،
فقد تنوعت أحكام المعاملات بحسب ما تتعلق به وما يقصد بها إلى أنواع
وهي:
أحكام الاحوال الشخصية: وهي التي تتعلق بالأسرة من بدء تكونها،
ويقصد بها تنظيم علاقة الزوجين والأقارب بعضهم ببعض، وآياتها في
القرآن نحو سبعون آية منها: قالَ تَعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ
خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا
وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم : 21].
أحكام المدنية: وهي التي تتعلق بمعاملات الأفراد، ومبادلاتهم من بيع
وإجارة ورهن وكفالة وشركة ودين، ويقصد بها تنظيم علاقات الأفراد
المالية، وحفظ حق كل ذي حق، وآياتها نحو سبعون.
أحكام الجنائية: وهي التي تتعلق بما يصدر عن المكلف من جرائم وما
يستحقه عليها من عقوبة، ويقصد بها حفظ حياة الناس وأموآلهم وأعراضهم
وحقوقهم وتحديد علاقة المجني عليه بالجاني وبالأمة، وآياتها نحو
ثلاثون.
أحكام المرافعات وهي التي تتعلق بالقضاء والشهادة واليمين، ويقصد
بها تنظيم الاجراءات لتحقيق العدل بين الناس، وآياتها نحو ثلاث
عشرة.
أحكام الدستورية: وهي التي تتعلق بنظام الحكم وأصوله، ويقصد بها
تحديد علاقة الحاكم بالمحكوم، وتقرير ما للأفراد والجماعات من حقوق،
وآياتها نحو عشرة.
احكام الدولية: وهي التي تتعلق بمعاملة الدولة الإسلامية لغيرها من
الدول، وبمعاملة غير المسلمين في الدولة الإسلامية، ويقصد بها تحددي
علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول في السلم والحرب، وتحديد
علاقة المسلمين بغيرهم في بلاد الدول الإسلامية، وآياتها نحو
عشرون.
احكام الاقتصادية: وهي التي تتعلق بحق السائل والمحروم في مال
الغني، وتنظيم الموارد والمصارف، ويقصد بها تحديد علاقات المالية
بين الأغنياء والفقراء من المجتمع وعلاقة الدولة بالأفراد، وآياتها
نحو عشرة.
ومن الجديد بالذكر بان آيات الاحكام في القرآن الكريم إن أحكامه
تفصيلية في العبادات وما يلحق بها من الأحوال الشخصية والمواريث لأن
أكثر أحكام هذا النوع تعبدي ولا مجال للعقل فيه ولا يتطور بتطور
البيئات، او الاجتهادات وأما فيما عدا العبادات والاحوال الشخصية من
الأحكام المدنية والجنائية والدستورية والدولية والإقتصادية،
فأحكامه فيها قواعد عامة ومبادئ أساسية، ولم يتعرض فيها لتفصيلات
جزئية إلا النادر، لان هذه الأحكام تتطور بتطور البيئات والمصالح،
فأقتصر القرآن الكريم فيها على القواعد العامة والمبادئ الأساسية
ليكون أهل العلم كل عصر في سعة من أمرهم، وحسب ما تقتضيه المصلحة،
وهذا مما يجعل الدين الإسلامي قابل لكل زمان ومكان ويصلح لمخاطبة
العقول في كل عصر ومصر.
د . احمد حسن السعيدي