فقه الحب والبغض (7) : المرحلة الاولى في المراد من ( الحب والبغض في الله ) .

2020/06/01

بسم الله الرحمن الرحيم
الفقه . الدرس ٧  الأثنين . ١٠ شهر رمضان.  ١٤٤١
فقه الحب والبغض . المرحلة الاولى في المراد من ( الحب والبغض في الله ) . مناشيء الحب والبغض ، وآليات غلبة المناشيء الصالحة على غيرها ، حياة القلب ورقته وأسباب قسوته . أصالة الحب في الله وتفرع البغض في الله عنه
ومن أوضح النصوص في بيان هذه الحقيقة ما وراه الكليني رض عن مُحَمَّد بْن يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مِهْرَانَ عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ وعِدَّةٍ قَالُوا كُنَّا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّه ع جُلُوساً فَقَالَ ع لَا يَسْتَحِقُّ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَكُونَ الْمَوْتُ أَحَبَّ إِلَيْه مِنَ الْحَيَاةِ ويَكُونَ الْمَرَضُ أَحَبَّ إِلَيْه مِنَ الصِّحَّةِ ويَكُونَ الْفَقْرُ أَحَبَّ إِلَيْه مِنَ الْغِنَى فَأَنْتُمْ كَذَا فَقَالُوا لَا واللَّه جَعَلَنَا اللَّه فِدَاكَ وسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ووَقَعَ الْيَأْسُ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَمَّا رَأَى مَا دَاخَلَهُمْ مِنْ ذَلِكَ قَالَ أيَسُرُّ أَحَدَكُمْ أَنَّه عُمِّرَ مَا عُمِّرَ ثُمَّ يَمُوتُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الأَمْرِ أَوْ يَمُوتُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْه قَالُوا بَلْ يَمُوتُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْه السَّاعَةَ قَالَ فَأَرَى الْمَوْتَ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الْحَيَاةِ ثُمَّ قَالَ أيَسُرُّ أَحَدَكُمْ أَنْ بَقِيَ مَا بَقِيَ لَا يُصِيبُه شَيْءٌ مِنْ هَذِه الأَمْرَاضِ والأَوْجَاعِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الأَمْرِ قَالُوا لَا يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّه قَالَ فَأَرَى الْمَرَضَ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الصِّحَّةِ ثُمَّ قَالَ أيَسُرُّ أَحَدَكُمْ أَنَّ لَه مَا طَلَعَتْ عَلَيْه الشَّمْسُ وهُوَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الأَمْرِ قَالُوا لَا يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّه قَالَ فَأَرَى الْفَقْرَ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الْغِنَى .
فهو ظاهر جدا في أن دواعي الحب والبغض في النفس قد تتضاد ولكن المؤمن يستعين على قلبه بما يعرف من حقائق الإيمان التي تبين له المواضع الحقيقة لما يحقق له المصالح الشخصية وتجمع له دواعي الحب الناشئة من حب الخير والجمال مع دواعي الحب الذاتية بحسب ما ستؤول اليه حاله في آخرته ، فالتفات الانسان الى بشائر الله تعالى بما أعده للمتقين من حسن الثواب وتحذيره مما أعد للكافرين والفاسقين من سوء العذاب وتدبره فيها من أعظم ما يعينه على توجيه مشاعره القلبية حبا وبغضا في الله بالاتجاه الصحيح  .
وهو مناسب جدا لما يروى عن المجاهدين الصادقين في حبهم للقتال بحسب ما يرون فيه من عاقبة حسنة حتى روي أن الحسين عليه السلام قال ( لا أرى الموت الا سعادة ) و القاسم بن الحسن عليه السلام كان يرى الموت مع عمه الحسين ( أحلى من العسل ) وآخر من أصحاب الحسين عليه السلام كان يلمح في أطراف سيوف الأعداء معانقة الحور العين فارتقوا بتلك البصيرة على من كتب عليهم القتال وهو كره لهم .
فالحاصل أن مناشئ الحب والبغض قد تتزاحم على القلب وأن بيد العبد أن يبصر منها ما هو جدير بقلبه ليتأثر به ولو تدريجا فإذا انكشف له زيف الدنيا وزواله وسوء عواقبها وعرف أنها دار ( أولها عناء . وآخرها فناء . في حلالها حساب . وفي حرامها عقاب من استغنى فيها فتن . ومن افتقر فيها حزن . ومن ساعاها فاتته. ومن قعد عنها واتته . ومن أبصر بها بصرته. ومن أبصر إليها أعمته ) أحيا قلبه بالموعظة وأمات فيه مشاعر الحب للدنيا وأهلها بالزهد فيها فعمر بحب الله وحب رسوله وأوصيائه كما ورد (َأحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وأَمِتْه بِالزَّهَادَةِ ،وقَوِّه بِالْيَقِينِ ونَوِّرْه بِالْحِكْمَةِ ، و ذَلِّلْه بِذِكْرِ الْمَوْتِ وقَرِّرْه بِالْفَنَاءِ - وبَصِّرْه فَجَائِعَ الدُّنْيَا ) .
الرابع : أن من جملة العوامل الرئيسة في حصول الحب والبغض في القلب، أو في تحديد اتجاه القلب في حبه وبغضه هو حال القلب نفسه فتارة يكون مرهف الحس مستعدا للتأثر بمناشئ  الحب والبغض وتارة يكون قاسيا جامدا متبلد الإحساس كالحجارة أو أشد قسوة ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ).

وقد أولى الشارع هذه القضية اهتماما كبيرا ببيان خطورة قسوة القلب وتبعاتها الخطيرة  منها ما رواه الصدوق في الخصال  قال حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه قال : حدثنا علي بن الحسين السعد آبادي ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن جعفر ابن محمد ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن علي عليهم السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : من
علامات الشقاء جمود العين وقسوة القلب ، وشدة الحرص في طلب الرزق ، والإصرار على الذنب.
وفي الكافي عن عَلِيّ بْن إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيه عَنِ النَّوْفَلِيِّ عَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه ع قَالَ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع لَمَّتَانِ لَمَّةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ ولَمَّةٌ مِنَ الْمَلَكِ فَلَمَّةُ الْمَلَكِ الرِّقَّةُ والْفَهْمُ ولَمَّةُ الشَّيْطَانِ السَّهْوُ والْقَسْوَةُ .
وفي تحف العقول عن الباقر عليه السلام ( إن لله عقوبات في القلوب والأبدان : ضنك في المعيشة ووهن في العبادة . وما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب ).
وجمع الحر العاملي ره في الوسائل بعض نصوصه تحت عنوان ( باب تحريم قسوة القلب )  
ووردت بعض النصوص الشريفة في بيان أسباب قسوة القلب من قبيل ما رواه الصدوق في العلل  ( عن أحمد بن الحسن القطان ، عن أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني ، عن علي بن الحسن بن علي بن فضال ، عن أبيه ، عن مروان بن مسلم ، عن ثابت بن أبي صفية ، عن سعد الخفاف ، عن الأصبغ بن نباته قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : ما جفت الدموع إلا لقسوة القلوب ، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب .
ومنها : ما رواه الكليني عن َعلِيّ بْن إِبْرَاهِيمَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ مَاتَ لِبَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي عَبْدِ اللَّه ع وَلَدٌ فَحَضَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّه ع فَلَمَّا أُلْحِدَ تَقَدَّمَ أَبُوه فَطَرَحَ عَلَيْه التُّرَابَ فَأَخَذَ أَبُو عَبْدِ اللَّه ع بِكَفَّيْه وقَالَ لَا تَطْرَحْ عَلَيْه التُّرَابَ ومَنْ كَانَ مِنْه ذَا رَحِمٍ فَلَا يَطْرَحْ عَلَيْه التُّرَابَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّه ص نَهَى أَنْ يَطْرَحَ الْوَالِدُ أَوْ ذُو رَحِمٍ عَلَى مَيِّتِه التُّرَابَ فَقُلْنَا يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّه أتَنْهَانَا عَنْ هَذَا وَحْدَه - فَقَالَ أَنْهَاكُمْ مِنْ أَنْ تَطْرَحُوا التُّرَابَ عَلَى ذَوِي أَرْحَامِكُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُ الْقَسْوَةَ فِي الْقَلْبِ ومَنْ قَسَا قَلْبُه بَعُدَ مِنْ رَبِّه.
ومنها : ما أرسله المجلسي ره  قال:  قال صلى الله عليه وآله : من تعود كثرة الطعام والشراب قسا قلبه .
وفي دعوات الرواندي  قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أذيبوا طعامكم بذكر الله والصلاة ، ولا تناموا عليها فتقسو قلوبكم.
وفي مستطرفات السرائر عن النبي صلى الله عليه واله أنه قال : يا علي ثلاثة مجالستهم تميت القلب : مجالسة الأنذال ، ومجالسة الأغنياء ، والحديث مع النساء.
رواه عن الصدوق في الفقيه وفي ما بأيدينا منه قريب منه ، ورواه في الخصال نحوه.
ورواه في تحف العقول نحوه .
وفي الكافي عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ سَمِعْتُ الْمُحَارِبِيَّ يَرْوِي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه ع عَنْ آبَائِه ع قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه ..الحديث نحوه أيضا .
وفي الكافي أيضا : عن عَلِيّ بْن إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيه عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ حَرِيزٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه ع قَالَ كَثْرَةُ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ .
 ولعل من ذلك أيضا  ما ورد من النهي عن بعض الحرف والمهن التي توجب ذلك كالجزار والتكسب بفحل الضراب وغير ذلك.
وما ورد من النصوص التي تبين ما يوجب رقة القلب من طعام كالعدس الذي استفاضت فيه النصوص  أنه يوجب رقة القلب منها ما رواه  الكليني  عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : أكل العدس يرق القلب ويكثر الدمعة .
وغيره كثير مما أخذ فيه عنوان رقة القلب وقسوته أو حياة القلب وموته ، ومن الظاهر فيه أن القسوة وموت القلب تنأى بالعباد عن الحب والبغض في الله وتقربهم من حب الدنيا وأهلها وتثير عندهم دواعي الهوى وتؤجج فيه غرائز الشهوات .
ويتحصل من ذلك أن من أهم العناصر الطبيعية المؤثرة في الحب في الله _ بعد الإيمان، والمعرفة بمناشئ الحب في الله، والتوجه اليها، والتفكر فيها، والتدبر في ما نزل في القران عنها، والمعرفة كذلك بالمناشئ المضادة لها والتوجه الى زيفها وزوالها وسوء عاقبتها _ هو كون القلب حيا مفعم المشاعر مرهف الحس جديرا بأن تشرق فيه أنوار محبة الله تعالى وتسري منه تعالى الى كل من هو قريب منه، حبيب اليه، مذكرا به، دالا عليه .  

السيد حسين الحكيم


*ملاحظة " بحث استدلالي فقهي رمضاني في موضوع أخلاقي قد تكون فيه أحكام شرعية إلزامية فيها نصوص قرانية وحديثية كثيرة ولكنها لم تأخذ نصيبها المناسب من البحث الفقهي علما أن المدونات لا تمثل الرأي النهائي بل هي خلاصة للمسودة التي تطرح للمناقشة في الدرس"

33

أخترنا لك
مصطلح التأريخ والسيرة في اللغة والاصطلاح

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة