فقه الحب والبغض 6 : المرحلة الاولى في المراد من ( الحب والبغض في الله ) . بيان التضاد في مناشيء الحب والبغض ،

2020/06/01

بسم الله الرحمن الرحيم
الفقه . الدرس ٦  الأحد . ٩ شهر رمضان.  ١٤٤١
فقه الحب والبغض . المرحلة الاولى في المراد من ( الحب والبغض في الله ) . بيان التضاد في مناشيء الحب والبغض ، وآليات غلبة المناشيء الصالحة على غيرها

ولا بد من ملاحظة عدة أمور :
الاول : أن الحب يسري من المحبوب الى كل ما يرتبط به بعد توجه القلب الى ذلك الارتباط بينهما ، و بما أن مفاد الحب في الله هو الحب لأجل الله تعالى فإن العلاقة مع الله وحبه تعالى تكون بطبعها منشئا لحب من يكون قريبا من الله تعالى محبوبا مرضيا عنده أو يكون له أي  نحو من الارتباط به تعالى كأن يكون داعيا اليه ، أو مذكرا به أو مرتبطا بإحدى شعائره أو طاعاته ، بل قد يتفاعل القلب حبا مع الموجودات إن التفت الى أنها مخلوقة لله تعالى ، وأنه هو سبحانه وتعالى مدبر لها، قيوم بها بحكمته وكرمه، فمن الممكن جدا والملائم لطبع القلب أن تكون محبوبة في الله لما فيها من جهة ارتباط بالله تعالى ولعل مما يناسب ذلك ما ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام في عهده لمالك الاشتر من قوله : (.. وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم . ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم ، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل ، وتعرض لهم العلل ، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ ..) .
بناء على كون المنشأ في المحبة _ أو على الأقل  أحد مناشئها _ هو كون الرعية مخلوقين لله تعالى .
وقد نجد في الوجدان الشخصي والخبرة الاجتماعية كثيرا من الشواهد على ذلك ، كما قد نجد في النصوص ما يناسب ذلك أيضا ونذكر في ما يلي بعض الشواهد من النصوص الشريفة المنبهة لأن الحب ينتقل من المحبوب الى ما يرتبط به بمختلف انحاء الارتباط  من دون أن نركز على حجيتها لأن الغرض منها لا يتوقف على إثبات صدورها عن المعصوم  إذ لا غرض لنا بإثبات جهة شرعية منها بل هي أشبه ما تكون بالنصوص الارشادية :
1_ ما رواه الصدوق في أماليه بسنده  (عن ابن عباس ، قال : قال علي ( عليه السلام ) لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا رسول الله ، إنك لتحب عقيلا ؟ قال : إي والله إني لأحبه حبين : حبا له ، وحبا لحب أبي طالب له ، وإن ولده لمقتول في محبة
ولدك ، فتدمع عليه عيون المؤمنين ..) .
فشطر من حب عقيل لكونه محبوبا عند أبي طالب سلام الله عليه ، فمحبوب المحبوب لمن التفت الى ذلك .
2_ ما عن سدير قال : كان علي بن الحسين عليهما السلام يحب أن يرى الرجل تمريا لحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التمر .
وقريب منه ما عن سليمان الجعفري قال : دخلت على أبي الحسن الرضا عليه السلام وبين يديه تمر برني وهو مجد في أكله يأكله بشهوة فقال لي : يا سليمان ادن فدنوت وأكلت معه وأنا أقول له : جعلت فداك إني أراك تأكل هذا التمر بشهوة ؟ فقال : نعم إني لأحبه قال قلت ولم ذلك ؟ قال : لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان تمريا ، وكان علي « ع » تمريا وكان الحسن عليه السلام تمريا ، وكان أبو عبد الله الحسين « ع » تمريا ، وكان زين العابدين عليه السلام تمريا وكان أبو جعفر « ع » تمريا ، وكان أبو عبد الله « ع » تمريا ، وكان أبي « ع » تمريا ، وأنا تمري .. الحديث ).
3_  ما عن المسعودي : وقام المقداد فقال : « ما رأيت مثل ما أوذي به أهل هذا البيت بعد نبيهم » فقال له عبد الرحمن بن عوف : « وما أنت وذلك يا مقداد » فقال : « إنّي واللَّه لَاحبهم لحب رسول اللَّه ص إياهم وإنّ الحق معهم وفيهم ) .
4_ عن أبي جعفر [ عليه السلام ] قال : أحبوا الله وأحبوا رسول الله لحب الله وأحبونا لحب رسول الله صلى الله عليه وآله .
5_ ما رواه الشيخ في مصباح المتهجد عن الصادق عليه السلام في تعقيب صلاة الصبح ( وارزقني حبك وحب كل من أحبك وحب كل عمل يقربني إلى حبك ).

الثاني : أن مناشئ الحب كما توجب سراية المحبة بحسب ما في القلب من استعداد لانبثاق مشاعر الحب باتجاه كل ما يرتبط به فإن مشاعر البغض أيضا يمكن أن تسري من المبغوض الى كل ما يرتبط به كما يشهد بذلك الوجدان من دون حاجة لاستعراض الشواهد الاجتماعية عليه فضلا عن الشواهد في النصوص الشريفة .

الثالث : أن مناشئ الحب والبغض قد تتعاكس في القلب وتتغالب فيترجح الأقوى منها على الأضعف فالأخوين الذي تكون أخوتهما وانتمائهما لنفس الأبوين سببا في شدة المحبة بينهما ولكن التنافس بينهما على ما يرغبان به وشعور كل منهما بأنه منشأ لحرمانه مما يرغب به يسبب الحسد والتباغض بينهما ، وكذلك حب الوطن قد يجمع قلوب المواطنين على حبه ولكن الاختصام في توزيع الثروة والقدرة فيه قد يفرق القلوب الى حد البغض والتورط في أشد الخصومة والعداء ، وهنا هو الامتحان الأكبر للإنسان في إدارة مشاعره وتوجيهها بالاتجاه الإيجابي الملائم للخير والكمال فمن ملك من عقله ما يستطيع به التوجه الى أسباب الحب الطبيعية واستثارتها في مشاعره فإنه سيتمكن من تنمية مشاعره بالاتجاه السليم والرقي بها في مدارج التكامل ، ومن أهمل نفسه وكان على عينه غشاوة اندفع في مشاعره السلبية واستغرق فيها حتى تطغى على مناشئ الخير خصوصا إن كانت المشاعر ذاتية أنانية فقد ينجر الأمر الى أن يعمي حب الملك قلوب الآباء عن حب ابنائهم فيقول لولده (والله لو نازعتني هذا الامر لأخذت الذي فيه عيناك فإن الملك عقيم ) وليس ذلك الا لغلبة حبه للملك على قلبه بحيث لم يعد يشعر بغيره وقد ورد في هذا الصدد نصوص كثيرة تحذر من الانسياق مع هذه المشاعر السيئة وتدعو الى تهذيب النفس منها نذكر منها بعضها مما يصلح منبها لهذه الجهة الأساسية في بحثنا :
1_  قوله تعالى :  وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ . فالظاهر منه أن كفرهم وانكارهم ورطهم في شدة حب العجل  
2_  قوله تعالى : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ . فالظاهر منه أن إعطائهم من الزكاة لتقريب قلوبهم من الحق وتشجيعهم عليه بسبب حبهم للأموال .
3_  في تحف العقول من مواعظ المسيح عليه السلام : لا يجتمع لكم حب الله وحب الدنيا.
 4_  قوله تعالى : قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ .
وروى ان سليمان عليه السلام لقى إبليس إلى أن قال قال فما أنت صانع بأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال أرضى منهم بالمحقرات لأنهم لا يطيعونني بالشرك فأحببت إليهم الدنيا حتى تكون أحب إليهم من الله ورسوله .

ومن أوضح النصوص في بيان هذه الحقيقة ما وراه الكليني رض عن مُحَمَّد بْن يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مِهْرَانَ عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ وعِدَّةٍ قَالُوا كُنَّا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّه ع جُلُوساً فَقَالَ ع لَا يَسْتَحِقُّ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَكُونَ الْمَوْتُ أَحَبَّ إِلَيْه مِنَ الْحَيَاةِ ويَكُونَ الْمَرَضُ أَحَبَّ إِلَيْه مِنَ الصِّحَّةِ ويَكُونَ الْفَقْرُ أَحَبَّ إِلَيْه مِنَ الْغِنَى فَأَنْتُمْ كَذَا فَقَالُوا لَا واللَّه جَعَلَنَا اللَّه فِدَاكَ وسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ووَقَعَ الْيَأْسُ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَمَّا رَأَى مَا دَاخَلَهُمْ مِنْ ذَلِكَ قَالَ أيَسُرُّ أَحَدَكُمْ أَنَّه عُمِّرَ مَا عُمِّرَ ثُمَّ يَمُوتُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الأَمْرِ أَوْ يَمُوتُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْه قَالُوا بَلْ يَمُوتُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْه السَّاعَةَ قَالَ فَأَرَى الْمَوْتَ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الْحَيَاةِ ثُمَّ قَالَ أيَسُرُّ أَحَدَكُمْ أَنْ بَقِيَ مَا بَقِيَ لَا يُصِيبُه شَيْءٌ مِنْ هَذِه الأَمْرَاضِ والأَوْجَاعِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الأَمْرِ قَالُوا لَا يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّه قَالَ فَأَرَى الْمَرَضَ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الصِّحَّةِ ثُمَّ قَالَ أيَسُرُّ أَحَدَكُمْ أَنَّ لَه مَا طَلَعَتْ عَلَيْه الشَّمْسُ وهُوَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الأَمْرِ قَالُوا لَا يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّه قَالَ فَأَرَى الْفَقْرَ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الْغِنَى .
فهو ظاهر جدا في أن دواعي الحب والبغض في النفس قد تتضاد ولكن المؤمن يستعين على قلبه بما يعرف من حقائق الإيمان التي تبين له المواضع الحقيقة لما يحقق له المصالح الشخصية وتجمع له دواعي الحب الناشئة من حب الخير والجمال مع دواعي الحب الذاتية بحسب ما ستؤول اليه حاله في آخرته ، فالتفات الانسان الى بشائر الله تعالى بما أعده للمتقين من حسن الثواب وتحذيره مما أعد للكافرين والفاسقين من سوء العذاب وتدبره فيها من أعظم ما يعينه على توجيه مشاعره القلبية حبا وبغضا في الله بالاتجاه الصحيح  .
وهو مناسب جدا لما يروى عن المجاهدين الصادقين في حبهم للقتال بحسب ما يرون فيه من عاقبة حسنة حتى روي أن الحسين عليه السلام قال ( لا أرى الموت الا سعادة ) و القاسم بن الحسن عليه السلام كان يرى الموت مع عمه الحسين ( أحلى من العسل ) وآخر من أصحاب الحسين عليه السلام كان يلمح في أطراف سيوف الأعداء معانقة الحور العين فارتقوا بتلك البصيرة على من كتب عليهم القتال وهو كره لهم .
فالحاصل أن مناشئ الحب والبغض قد تتزاحم على القلب وأن بيد العبد أن يبصر منها ما هو جدير بقلبه ليتأثر به ولو تدريجا فإذا انكشف له زيف الدنيا وزواله وسوء عواقبها وعرف أنها دار ( أولها عناء . وآخرها فناء . في حلالها حساب . وفي حرامها عقاب من استغنى فيها فتن . ومن افتقر فيها حزن . ومن ساعاها فاتته. ومن قعد عنها واتته . ومن أبصر بها بصرته. ومن أبصر إليها أعمته ) أحيا قلبه بالموعظة وأمات فيه مشاعر الحب للدنيا وأهلها بالزهد فيها فعمر بحب الله وحب رسوله وأوصيائه (َأحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وأَمِتْه بِالزَّهَادَةِ ،وقَوِّه بِالْيَقِينِ ونَوِّرْه بِالْحِكْمَةِ ، و ذَلِّلْه بِذِكْرِ الْمَوْتِ وقَرِّرْه بِالْفَنَاءِ - وبَصِّرْه فَجَائِعَ الدُّنْيَا ) .   

السيد حسين الحكيم


*ملاحظة " بحث استدلالي فقهي رمضاني في موضوع أخلاقي قد تكون فيه أحكام شرعية إلزامية فيها نصوص قرانية وحديثية كثيرة ولكنها لم تأخذ نصيبها المناسب من البحث الفقهي علما أن المدونات لا تمثل الرأي النهائي بل هي خلاصة للمسودة التي تطرح للمناقشة في الدرس" 
أخترنا لك
وحي الرحمن ووحي الشيطان

(ملف)عاشوراء : انتصار الدم على السيف

المكتبة